هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
لي صديق لعله الأشد قربا لي، ارتأى يوما ما لسبب لم أعد أذكره تماما أن يحيطني بطرف من سيرة جده لأمه العطرة، فأطلعني بصورة سريعة على كونه، رحمه الله، كان متحدرا من أسرة كبيرة وثرية في محافظة كبيرة من محافظات صعيد مصر، وأنه كان نابغة في الهندسة، حائزا درجة الدكتوراه ما خوله أن يختتم حياته المهنية أستاذا لها في الجامعة على ما أذكر، ولكل السالف أعلاه فقد كان يقطن في فيلا أنيقة في منطقة جميلة في القاهرة، لم تكن تقدر عليها سوى أسر الطبقة المتوسطة فما أعلى (على الأقل حينذاك) وبطبيعة الأمر فقد كان ميسور الحال، وكان محترما من قبل المجتمع والجيران، وكان مواظبا على فروض الله.
إلا أن المرحوم كانت له عادة أو ممارسة غريبة
بعض الشيء في نظر صديقي ذاك، فقد اعتاد أن يأتي دائما بصِبْية (وقلما صبايا)
ليعملوا خدما لديه (وهي لمن لا يعلم عادة شائعة، حيث تجلب الأسر الموسرة أطفال تلك
الفقيرة ليعملوا لديها). وكان يحرص بالتزام شبه ديني أن يحلق للصبي منهم شعره لدى
مقدمه، ليتخلص من القمل، ومن ثم يقوم بربطه وجلده بالسوط. الغرض المعلن من ذلك هو
تأديبه، لا على جريرة اقترفها فهذه لها حسابها الخاص، بل بصورة استباقية «ليريه
العين الحمراء» أي ليريه عاقبة إثارة غضبه، ليجعله يشعر كيف يكون الألم، ليكسره
ويزرع فيه الخوف من عصيان الأوامر، أو الخطأ، يدمغ الناموس والعرف في لحمه بذلك
السوط. ومن ثم فإن لنا أن نفترض ونزعم، بأن تلك التجربة تصبح أحد، بل ربما الأهم
في أساس تكوين ذلك الطفل المفترض، ذلك الطفل بالاسم والسن فقط الذي يُمسخ ويشيخ
قبل الأوان.
أنا أيضا وكثيرون غيري من الخلفية الاجتماعية
نفسها عرفنا الفتيات الخادمات وكثيرات مررن ببيوتنا، ويتفاوت نصيب كل منهن في ما
يلقين من عسف، حسب طيبة قلب وكرم الأسر التي يوقعهن حظهن فيها، وليس هناك ما يمنع
أن يكون ثمة تفاوض وهات وخذ على طريقة المعاملة بين أهلها/ بائعي عملها وطفولتها
والأسرة/ مشترية العمل وسارقة الطفولة، وكل ذلك يتم تحت مرأى ومسمع (وموافقة)
القانون والسلطة، فهي ممارسة عادية بكل ما تحتمله هذه الكلمة من استبطان لكل
الشرور، من جرائم اجتماعية وعنف تمثل حصيلة المقبول والمفيد للطبقات الحاكمة، مما
تم تسييده على مجتمع تشبع به.
حضرتني تلك الذكريات والصور لدى متابعتي
لمعركة على وسائل التواصل الاجتماعي، أثارتها الممثلة إسعاد يونس بشيء كتبته
وتظارفت فيه، ربما متصورة أنها خفيفة الظل، فسردت كيف أن عائلتها فوجئت بأحد يدق
الباب ذات يوم فإذا بشخص من معارفهم يصطحب طفلة للعمل لديهم، وإذ لم يكونوا في
حاجة لواحدة لما كان لديهم ما يكفيهم من الخدم، فأخذ يلح معددا محاسنها وبؤسها،
وإذ يقبلون كرما وضعفا من قلوبهم الطيبة المرهفة، فما تلبث أن تثبت تلك الفتاة
أنها لعينة، وعوضا عن القيام بالخدمة فإنها تصبح عبئا ثقيلا مدمرا ومكلفا حتى
ينتهوا بطردها؛ سرد طويل ممل لم تأل فيه جهدا في التفنن في وصف مدى قبح ودمامة
وقذارة تلك الفتاة التعسة، التي رزئوا بها حتى ليشعر القارئ بالغثيان، لا من
الفتاة ولكن من ذلك الكم من التعالي والاحتقار لمصير طفلة لم تختر منه شيئا، ثم في
النهاية لم يفت جدتنا إسعاد أن تسقط الفتاة على الإخوان المسلمين.
لحسن الحظ ثارت ثائرة الكثيرين على ذلك
التصوير والوصف البشع، إلا أنني على رفضي واستهجاني، لكل ما تشكله تلك الحكاية
المنفرة، فلا بد من الاعتراف بأن «ست إسعاد» كانت بمبالغاتها الفجة أكثر اتساقا مع
نفسها ومع الطبقة التي تمثلها من كثيرين، وأنها بملامح تلك الأقصوصة البغيضة،
اختزلت موقفا وتصورا طبقيا، يشكل قاعدة عامة تقوم عليها البورجوازية المصرية،
الضعيفة تاريخيا والمأزومة بامتياز، التي تخفي بعنجهيتها هزيمتها الداخلية
العميقة، ولعل أغلب من اعترضوا عليها لم يقدموا في حقيقة الأمر إلا الوجه الآخر،
الألمع بعض الشيء والذين نصدره للخارج، إذ طفق الكثيرون يذكرون نماذج إيجابية
ولحظات مومضة عن تلك العمة، وذلك الخال اللذين شبه تبنيا الخادمة فعلموها وزوجوها
إلخ، والحقيقة أن ذلك لا يعدو أمرا بسيطا: هم لا يريدون أن يروا، ناهيك من أن
يعترفوا بقبح الحقيقة، لا يريدون أن يروا أن لديهم مشكلة بهذا القبح، إن فتيات من
سن أبنائهم تُسرق طفولتهن فتضيع بلا تعليم ولا كرامة، يمسحن ويكنسن ويجلين الصحون،
ولا يفوت الكثيرين أن يلفتوا الانتباه دفاعا عن تلك الترتيبة الاجتماعية، بأن أحدا
لم يغصب الأهالي على ذلك، وأنهم سيكونون أول الرافضين للقضاء على عمالة الأطفال
تلك، لما تدره عليهم من دخل هم أحوج ما يكونون إليه، وأن الأسر المحترمة «بنت
الناس» كثيرا ما ساعدت أولئك الفتيات على الزواج. لا أذكر كم مرة سمعت تلك
الدفاعات والمبررات، وكما قلت فهي تنطق عن انحياز اجتماعي واقتصادي، بما يواكبه من
رؤى وأفكار أخلاقية (غير أخلاقية البتة في حقيقة الأمر) وهم يذكرونني بحرية العامل
في بيع قدرته على العمل للرأسمالي، مقارنة بالعبد؛ أجل الأهالي ليسوا عبيدا،
ولكنهم لا يملكون ما يكفي، والغالبية العظمى مجبرة على بيع أطفالها بهذه الصورة،
لتحقيق الكفاف وما الحالة الرثة التي وصفت الفتاة عليها إلا شاهد على ذلك. هم
ليسوا عبيدا ولكنهم ليسوا أحرارا تماما، وقبل كل شيء فأين المجتمع ممثلا في
التشريعات والدولة، الذي يحمي هؤلاء الأطفال، ويحفظ حقهم في الحياة الكريمة، بما
تشمله لزاما من الأكل والكساء والسكن والرعاية الصحية وكرسي المدرسة ومكان للعب في
متنزه؟
غير أن أهم ما لفت نظري من التفنن في وصف
القبح والقذارة، هو الغرض النفسي الذي يحققه ويلبيه: لا بد أن تنزع عنها أي
إنسانية وأن تصورها مسخا، لا بد أن تبدو تلك الفتاة البائسة وكأنها لا تنتمي إلى
الفصيلة البشرية، ولا تمت إلى الإنسان الصانع بصلة؛ لا بد من تنميط هذه الطبقة
لتبدو مختلفة تماما عنا، وعن طبقتنا التي تشتري طفولتهم في سوق النخاسة المقننة
المقنعة تلك، ولئن غابت الفوارق العنصرية الفجة عندنا بين بيض زرق العيون وسود أفارقة،
كما هي الحال في الغرب والولايات المتحدة مثلا (مع ملاحظة تعالي العامة العنصر
وغير المبرر على أفريقيا السوداء، وما لاقاه السادات بسبب لونه وعقدته من ذلك على
سبيل المثال لا الحصر)، فلا بد أن تحل محلها فوارق جسدية أخرى، تحل محل العِرق،
كالقذارة والهزال الناتج عن سوء التغذية والبشرة الأدكن والشعر الأجعد؛ أغلبنا
يعرف أن أبناء الريف المصري كثيرا تتوفر فيهم الوسامة ربما بأكثر من المدينة، لكن
وفقا لتلك الرؤية الطبقية، التي تمثلها «ست إسعاد» وتغدقها علينا، فإن الخدم
الأفقر لابد أن يكونوا أقبح، ويفوت على ملاحظتها ونباهتها العلاقة بين الفقر
والقذارة والهزال! المهم أن هؤلاء الخدم لا يبدون كالبشر، فالفقراء لا وجه لهم،
مجرد كائنات، لا بل أشياء، ما يذكرني أيضا بالإسرائيليين، الذين لا يرون في
الفلسطينيين بشرا.
بالمناسبة الملحة، فإن الذين يسوقون المبررات
على عمالة الأطفال أنفسهم، المبررون لكل الشرور الاجتماعية، واستلاب الحقوق، هم هم
أنفسهم الذين يروجون لنظريات الاقتصاد النيوكلاسيكي والنيوليبرالي، وتراهم وتسمعهم
يتحدثون عن أن الإصلاح لا الثورة هو الحل، وأن ذلك الإصلاح المرجو يبدأ على مستوى
العائلة، حيث لا بد أن يربي الأبوان الأولاد جيدا، ومن ثم ينصلح حال المجتمع، وأن
النمو (لا التنمية) سيرفع الجميع من الفقر عن طريق «تساقط ثمار النمو الاقتصادي»
إلخ، لذا فليس من عجب أن تلك الطبقة والنظام آثرا التحالف مع اليمين الإسلامي،
الذي لا يسائل أو يضرب ذلك الأساس الاقتصادي- الاجتماعي لوجودهم مقارنة باليسار
بصفة عامة.
على كل، رب مقالة رديئة نافعة (وإن كان من
قبيل التجاوز وصف ذلك الهراء الغث بمقالة) فإن صاحبة التعاسة لم تسعدنا إلا بذلك
الاختصار لمخايل الطبقة التي تعبر عنها، والحقيقة أنها لا تُلام بقدر من يستكتبها
ومن ينشر لها، ومن يعطيها مساحة إعلامية.
لم تزل تلك الطبقة تتخوف وتنشر الهلع من «ثورة
الجياع» وكأن الجياع هؤلاء مسوخ وكأن الجوع عيب أو جريمة. بالفعل هي جريمة يرتكبها
نظام يستغل ويستلب ويقمع هؤلاء الجياع. ألا فلتأت هذه الثورة لعلها تعدل الميزان،
فتحرر الناس وترد عليهم حقوقهم وكرامتهم.
(القدس العربي)