هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
شاءت محاسن الصدف أن تتزامن واقعتان: مجلس الأمن الدولي يعقد جلسة عامة، لمناقشة الخطط الإسرائيلية الخاصة بضمّ أراض فلسطينية في الضفة الغربية؛ وكتاب جون بولتون الجديد، مالئ الدنيا وشاغل الناس، ينزل إلى المكتبات. الأمم المتحدة، تحت سقف «المجتمع الدولي»، ذلك المسمى الغامض العجيب؛ هي الصلة الأولى المباشرة بين الجلسة والمؤلف، فللأخير باع طويل ومديد في تقزيم المنظمة الدولية، ومن ورائها تسعة أعشار المنظمات التي لا تستظلّ بالعباءة الأمريكية على نحو أو آخر، ولأقدار المصادفة أن تذكّر الناس بأنّ الماضي حلقات لا تنفكّ عن الحاضر إلا عند حسيري النظر أو المتعامين عن سابق قصد.
وما دامت الجلسة قد اقتصرت على الخطب العصماء، بصوت الأمين العام للأمم المتحدة أو مندوب فرنسا الذي ناب عن زملائه الرافضين، أو مندوبة الولايات المتحدة التي لم يزعجها البتة أن تغرّد خارج السرب؛ فإنّ ظلّ بولتن، بوصفه المندوب الأمريكي الأسبق في المجلس، حضر واستطال، فذكّر أولئك الذين قد تنفعهم الذكرى.
لا أحد، عدا السذّج أغلب الظنّ، ينتظر من مجلس
الأمن أن يوصي بأيّ إجراء آخر سوى تحذير دولة الاحتلال من مغبة الضمّ، وأنه
«انتهاك للقانون الدولي» و«خطر على عملية السلام»؛ أو ينتظر من الاتحاد الأوروبي
اتخاذ عقوبات ملموسة، على غرار ما فعل ضدّ روسيا جراء ضمّ القرم في سنة 2014 على
سبيل المثال. أصدقاء دولة الاحتلال داخل الاتحاد، وليس الولايات المتحدة وحدها
داخل مجلس الأمن، سوف يتكفلون بوأد أيّ مشاريع قرارات من هذا الطراز، حتى قبل أن
يرى نصّ المسودة النور. «من المعقول، بالتالي، أن ينتظر المرء نباح الاتحاد
الأوروبي أكثر من العضّ»، تقول مايا سيون تزيدكياهو مديرة العلاقات الإسرائيلية ـ
الأوروبية في برنامج «ميتفيم»، المعهد الإسرائيلي للعلاقات الخارجية الإقليمية.
آخرون في دولة الاحتلال يستعيدون أمثلة الماضي: لو أنّ مناحيم بيغن خشي ردود أفعال
«المجتمع الدولي» إياه، لما كان سيعتبر القدس الشرقية جزءا من العاصمة الموحدة
لدولة الاحتلال في سنة 1980، ولا كان سيضمّ الجولان المحتل في سنة 1981؛ مع
التذكير بأنّ الولايات المتحدة يومذاك، أيام رونالد ريغان، صوّتت في مجلس الأمن
لصالح قرار بالإجماع يدين ضمّ الجولان.
وقبل 14 سنة كان بولتن، الصقر المحافظ العتيق
الذي عُيّن مندوبا دائما للولايات المتحدة في مجلس الأمن رغم أنف اللجنة المختصة
في الكونغرس، قد أدخل 750 تعديلا على مسوّدة من 26 صفحة طُرحت على ممثّلي 191 دولة
تقاطروا إلى نيويورك للبحث في إصلاح الهيئة الدولية. ولا يظنن أحد أنّ بولتن لم
يعترض إلا على «رطانة الجنوب»،
كما يقول بعض الأمريكيين في وصف اللغة التي تتعالى بين الحين والآخر في نقد الأمم المتحدة، والتي تتردد هنا وهناك في العالم خارج الكون الغربي الأورو – أمريكي. أو أنه لم يعترض إلا على مسائل «خلافية» معتادة وكلاسيكية، مثل تعريف الإرهاب، ومفهوم السيادة الوطنية، وتصدير الديمقراطية، والكيل بمكيالين في ما يخصّ حقوق الإنسان وتطبيق قرارات مجلس الأمن الدولي، ومعالجة الفقر والمديونية، ومشكلات البيئة، واستثناء الأمريكي من محاكم جرائم الحرب…
لقد اعترض على كلّ فقرة في الوثيقة، سواء
تحدثت عن قِيَم الهيئة الدولية ومبادئها القديمة والحديثة والقادمة، أو الشراكة
الكونية في التنمية، أو التطوير الزراعي، أو مجابهة انتشار مرض نقص المناعة، أو
مسائل الهجرة، أو السلام والأمن الجماعي، أو حتى… التكافؤ الجنسي بين الذكر
والأنثى، وتمكين المرأة، وتطوير العلوم والتكنولوجيا، وحوار الجنوب ـ الجنوب (وليس
الشمال ـ الجنوب!)… وهو اعترض من وحي يقينه بأنّ بلاده هي العالم، أو هي ربما
الإمبراطورية المعاصرة الوحيدة التي تحكم العالم على هذا النحو أو ذاك، بالتحالف
مع حفنة «شركاء» و«حلفاء» هنا، أو بمقاتلة حفنة «عصاة» و«مارقين» هناك. ولسوف
يُتاح لنا أن نقرأ حصيلة دواخله، التي لم ينطق بها رسميا من مقعده في مجلس الأمن
الدولي، وذلك طيّ فصول كتابه «الاستسلام ليس خيارا: الدفاع عن أمريكا في الأمم
المتحدة وخارجها»، الذي صدر سنة 2007.
وفي تلك الحقبة ذاتها كان العدوان الإسرائيلي
على لبنان، صيف 2006، بمثابة برهان صارخ على العديد من الأمثولات العتيقة المكرورة
التي تُساق عادة على سبيل التأريخ للنظام الدولي المعاصر، وتنتج وتعيد إنتاج
أخلاقياته ومعاييره وخطاباته وعلاماته. بروكسيل، في إطار الاتحاد الأوروبي، شهدت
آنذاك سلسلة جدالات طويلة عجيبة (أين منها سفسطة البيزنطيين!) بين ممثّلي
الديمقراطيات الغربية؛ حول الفارق بين «وقف إطلاق النار»، مقابل «وقف الأعمال
العدائية». وفي الآن ذاته كانت آلة الوحشية الإسرائيلية تواصل الإجهاز على المزيد
من المدنيين في لبنان، فتقتل عشوائيا، ولا تُبقي حجرا على حجر، وتضرب وتقصف وتنسف
وتدمّر…
مصيبة ذلك «المجتمع الدولي» لا تقتصر على
ارتداده إلى سلوك سابق متكرر أثبتت الوقائع إفلاسه وعواقبه الوخيمة، فحسب؛ بل كذلك
في أنّ الارتداد ينطوي على الانحطاط أكثر فأكثر، نحو عواقب أشدّ أذى وأبعد أثرا،
وأوضح الأمثلة ارتداد إدارة ترامب اليوم عن سلوك طبع إدارة ريغان ذاته في مسائل
ضمّ أراض محتلة. وفي الماضي كانت صيغة الكليشيه المعتادة عند اندلاع حروب إقليمية
أن يطالب «المجتمع الدولي» بوقف إطلاق النار فورا، إنْ لم يكن بدافع النفاق ورفع
العتب، فعلى الأقلّ بغية إفساح المجال أمام القوى الكبرى المعنية ببعض أو جميع
أطراف الاقتتال (وهي، دائما وأبدا، معنية بالضرورة!) كي تساوم وتتفاهم وتتفق.
التطوّر اللاحق هو أن تعمد الولايات المتحدة
إلى إسقاط واجب الحدّ الأدنى هذا، الذي كانت تتمسح به في الماضي ولعلها ستتمسح به
مجددا في أية سانحة قادمة مختلفة السياقات، فتمتنع عن المطالبة بوقف إطلاق النار،
وتعلن أنّه «غير مفيد الآن».
أكثر من هذا، يحدث أن تضغط أمريكا على حلفائها، وسائر الأجرام الدائرة في فلكها، كي لا يصدر أيّ قرار عن أية جهة دولية يمكن أن يؤذي دولة الاحتلال، أو يخالف «الدلال» الذي تتمتع به من جانب القوة الكونية العظمى. وفي ذلك المثال، كما في الحال الراهنة اليوم مع مطامع الاحتلال في ضمّ المستوطنات وأراض فلسطينية أخرى، اتضح أكثر فأكثر أنّ أوروبا العملاقة الموحدة عاجزة تماما عن اعتماد سياسة خارجية فعلية مستقلة عن تلك السياسات التي تعتمدها الولايات المتحدة، مؤقتا أو على المدى الاستراتيجي، إزاء سلسلة طويلة من الملفات الدولية الشائكة، وعلى رأسها قضايا الشرق الأوسط بالطبع.
والحال أنّ خيارات ترامب في منح ضوء أخضر
لرئيس دولة الاحتلال بنيامين نتنياهو قبل مطلع تموز (يوليو) ليست قاطعة بعد. ثمة
سجال بين فريق مؤيد (يقوده وزير الخارجية مايك بومبيو وبعض صقور الجمهوريين في
الكونغرس)، وفريق يفضّل منح ضوء برتقالي أو حتى بعض التريث (جاريد كوشنر
والاستخبارات وجنرالات البنتاغون)؛ هذا عدا عن تخوّف البعض في حملة ترامب
الانتخابية من أنّ تشجيع نتنياهو قد لا يكون مفيدا تماما في هذا الطور: أنصار
ترامب من الإنجيليين المؤيدين للضمّ سوف يصوتون له في كلّ حال، ولكنّ استطلاعات
الرأي تمنح المنافس الديمقراطي جو بايدن تفوقا ملحوظا في صفوفهم، رغم عدم تأييده
لخطط الضمّ.
وبالطبع، كلّ هذا على خلفية الافتراض بأنّ
النباح، وليس العضّ، هو الحصيلة الختامية لمواقف المعترضين على الضمّ في مختلف
مراتب «المجتمع الدولي».
(القدس العربي)