هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
تعرّف الموسوعة الشبكية "النوستالجيا" بأنها مصطلح يستخدم للحنينِ الى الماضي، وأصلُ الكلمةِ يرجعُ إلى اللغةِ اليونانيةِ، إذ تشير إلى الألم الذي يعانيه المريض إثر حنينه للعودة لبيته وخوفه من عدم تمكنّه من ذلك للأبد، وفي الغالب فإن النوستالجيا هي حب شديد للعصورِ الماضية بشخصياتها وأحداثها، وتحاول هذه العجالة أن ترصد حالة ما يسمّى بالأناشيدِ الإسلامية بوصفها حالةً مرضيّةً أدّت إلى نتائج مؤسفة.
كانت حقبة الثمانينيات موارةً بالأحداثِ التي عصفت بالحركاتِ الإسلامية، ولقد غطت نظرة المظلومية على هذه الحقبة، إضافة إلى السذاجة السياسية في التعامل مع الأنظمة، فنتج عن ذلك رؤية طوباوية ظللت المشهد العام، لذا كان من الطبيعي أن يتماشى الفن وأن يعبّر عن تلك التحركات التي تنطلق من منظورٍ خاصّ.
بدأت محنة جماعةِ الإخوان المسلمين في سوريا، وانطلقت معها ملحمة الدعوة و التي تبنّاها منشدٌ اسمه أبو مازن، بإمكانيات بسيطة وصوت عذب ومسجل كاسيت. لقد كان هذا الشاب رضوان خليل عنان - ينتقي كلماتٍ لشعراءَ حركيين من أمثال الأستاذ إبراهيم عزت، ويدندنُ بها ويسجلها في بيوتِ دمشق، ليتفاجأ بانتشارها لا في سوريا فقط بل في بلاد الشام كاملة، كما أن هذه الأشرطة لتسعة اصبحت فيما بعد ايقونةَ ما يسمى النشيدَ الإسلامي.
بعد ذلك أصبح الإخوان المسلمون يتداولون هذه الأشرطة أي أشرطة أبي مازن، تمامًا كما تُتداولُ الممنوعات، فقد كانت السرية والمظلومية والشعور بالتمييز هو أهم ما يميز تلك المرحلة، لكن السؤال هو أين الفن وسط كل ذلك؟ فأرى بأن الفن كان صافيًا وبدائيًا وليس له أيّة طموحٍ بالاحتراف، لذلك ظل مدفونًا بالنوستالجيا التى اكتملت بها الدائرةُ محكمة وثاقها على رقابِ المُريدين، وهنا تشكلت النوستالجيا بوصفِها حالةً مرضيةً فيما بعد أو شكلا من أشكال الاكتئاب!
إن فترة الثمانينات كانت تربة خصبة لأحلامِ الحراكيين الإسلاميين، الأحلامِ التي تغض طرفَها عن ملامِحِ الواقع، وظلت هذه الأحلام صنفا عاليًا يتدرج في مراحله حتى تبدد في سنة 2013، حيث انهار كل شيء، ففي فترة الثمانينيات كانت كلمات الاناشيد ممزوجةً بإحساسٍ يخالجُه الصدق، كما كان لها مسارًا تسيرُ نحوه بوضوح، أما بالنسبةِ للألحان فقد كانت تغرف من نهرِ موروثِ النشيدِ الديني الذي أداه عمر البطش وصبري مدلل من جهة، ومن جهة أخرى فقد كان لها طموحًا فنيا خاصا بها وكل ذلك كان متقدما على التنظير التنظيمي، و ذلك لأن الفن كان محلّقا في سماء الحلم، بينما كانت التنظيمات في أوج انهياراتها وتسكنُ بين جدرانِ واقعٍ مؤسف، فقد انقسم تنظيم الإخوان المسلمين في تلك الفترة إلى ثلاثةِ تنظيماتٍ يلعنُ بعضُها بعضًا.
اقرأ أيضا : الدبكة الفلسطينية.. موروث تحفظه الأجيال (شاهد)
عند آخر رمقٍ للتنظيم الإخواني في سوريا انكفأت الجماعة على ذاتها، وأبقت على الجناح البراغماتي الذي يحاول التفاعل مع واقع الحياة الجديدة، وفي نهاية الثمانينيات وصعود التيارات الإسلامية من جديدٍ في المنطقة دخلت الآلات الموسيقية إلى الأناشيد، وهنا بدأ الحديث والنقاش حول مشروعية ذلك، وعقدت المقارناتُ الكبرى بين ما قدّمه أبو مازن وأبو دجانة وأبو راتب قديما وبين ما يقدمه في هذه الحقبة أبو راتب وحسام الأحمد أو فرقة اليرموك من محتوىً بعيدٍ عن ما يسمّونه هموم الدعوة.
بالنسبةِ لأبي راتب فقد وجد نفسه وحيدًا يحرث طريقًا جديدة ليس لديه تنظيرات فكرية تسنده ولا كتابا ولا ملحنين ذوي دربة أو خبرة ، فمضى يتلمس طريقه وحده، فأصبحت كلماته وألحانه مكرورة وبعضها قد تكون بحسب ما يقول البعض مسروقة من ألحانٍ معروفة دون مواربة، وهذا كان شأن معظم فرسان الأناشيد الإسلامية آنذاك.
هذا الإطار الفني الذي وضع فيه صناع هذه الاناشيد أنفسهم، وانسحب أيضا على جموع المستمعين لهذا النوع، إذ أن صناعة مثل هذه الأعمال قد كانت محتكمة لمساراتٍ تتأثر بالجو الموسيقي العام، تأثر المقتبس والعاجز أمامها والمستسهل سرقتها دون الخوف من الملاحقة القانونية، فضلا عن الملاحقة الأخلاقية، وبعد كل ذلك وبطبيعة الحال لم تكن هذه الأعمال عنصرًا فاعلا في مثل هذا الجو، فمن جهة المتلقي أدت هذه المحددات الى تأطيرِ الذائقةِ الفنية وصناعة نماذجَ رديئة موسيقيا لتصبح نماذجَ عليا تشكّل جيتو من الأذواق المشوهة و التي تعجز عن استساغة أو تمعن فضاءات الفن غير المحدودة.
في العقد الثاني من الألفينيات وبعد انهيار الأفكار السياسية الكبرى والتي لا تعترفُ باللونِ الرّمادي واندماج العالم بحبال وسائل التواصل الاجتماعي، أتساءل ماذا بقي من تلك الأفكار؟ وماذا بقي من ذلك الفن الذي كان يعبر عن روح تلك الأفكار؟
إنني أجد استماع الإسلامي السابق لتلك الأناشيد وحنينه المرضي لتلك الحقبة يشبه احتساء اليساري السابق قدحا من الفودكا رديئة الطعم وغير المستساغة، لكنّها ثرية بالذكريات طافحة بالمسرّات وتمنحه لحظاتٍ خاصة وحميمة مبعدةً إيّاه عن الواقع الذي بات لا يعترف بالأيدولوجيات الكبرى ذاتِ الأحلام التي لطالما كانت تطمح إلى تغيير العالم، لقد انتهت الأغاني وانتهت الأحلام الواضحة التي توجه متلقوها لطريقٍ محددة الملامح، وأصبح المؤدلجُ ريشة في مهب الريح خارج الزمن وخارج الحلم.