أوشك رمضان على الانقضاء وما تزال المساجد مغلقة في معظم أرجاء العالم العربي، وما زال المؤذنون يختمون الأذان بعبارة "صلوا في بيوتكم" التي كادت تصبح جزءاً من هذا النداء. حُق للمسلمين أن يحزنوا لذلك، فإغلاق المساجد ليس بالأمر الهين، وإغلاقها في رمضان فوت علينا في شهر العبادة هذا بعض أهم ما كان يتميز به من إقبال على المساجد في الصلوات الخمس، وفي صلاة القيام، وفي الجمع، ومن فعاليات ثقافية ووعظية تعود الناس عليها، لا تخلو منها مساجد المسلمين في رمضان بدرجات تتفاوت بين بلد وآخر.
ولكن لئن كان إغلاق المساجد أمرا جللا، إلا أنه بات ضرورة ملحة بسبب خطورة فيروس كورونا وسرعة تفشيه في أماكن التزاحم ومنها المساجد. ولقد أفتى عدد كبير من العلماء والمجامع الفقهية والمؤسسات الدينية عبر العالم بجواز إغلاق المساجد في هذه الظروف وجواز أن يصلي الإنسان الفرائض والنوافل على حد سواء في داره. ولكن مع طول مدة الإغلاق بدأت الأصوات تتعالى مطالبة بفتحها. أكثر الناس اعتدالاً يتفهمون السبب وراء الإغلاق ولكنهم يرون أنه حان الوقت لوقف هذا الإجراء، إذ بات بالإمكان، كما يرون، فرض إجراءات معينة تقلل من فرص تفشي العدوى، لو وجدت، بدليل أن بعض الدول الإسلامية في جنوب شرق آسيا اعتمدت هذا الأسلوب. إلا أن هناك من الناس من تطرف، وذهب إلى حد اعتبار إغلاق المساجد بمثابة إعلان حرب على الإسلام والمسلمين، متهماً الحكومات والسلطات الدينية ومن أفتى من العلماء بالضلوع في مؤامرة عالمية لحرمان المسلمين من مساجدهم.
يعبر عن مثل هذا الرأي في العادة أولئك الذين لم يقتنعوا حتى الآن بأن ثمة وباء يهدد حياة البشر، ويرون بأن فيروس كورونا مجرد خدعة تمارسها جهات متنفذة (لا يسمونها). وأغرب ما في الأمر أن مثل هذا الرأي لا يقتصر على فئة من المسلمين، بل هو موجود أيضاً لدى فئات من كافة الأديان والأعراق. وقد رأينا وسمعنا في الكيان الصهيوني من يعترض على إجراءات الحكومة الإسرائيلية ويتهمها بالتهويل والكذب والخداع والتآمر، وسمعنا نفس الرأي من منتسبي اليمين المسيحي المتطرف في بعض بلدان أوروبا وفي الولايات المتحدة.
من الآراء التي سمعناها من بعض المسلمين الغاضبين أن الحكومات العربية تتعمد إغلاق المساجد، بينما راحت تخفف القيود المفروضة على الأسواق. فإذا كان الازدحام مسموحاً به، أو لا يمكن الحد منه، في تلك الأماكن العامة، فلماذا تصر السلطات على إبقاء المساجد مغلقة، لولا أنها تتعمد ذلك من باب ضلوعها في حرب على الإسلام؟
العبادات التي تؤدى في المساجد يمكن أن تؤدى في البيوت، بينما لا يمكن للناس الصبر لمدة طويلة على توقف عملية البيع والشراء، لأن حياة الناس بعد حين تصبح مهددة
والحقيقة أن ذلك استنتاج أوهى من بيت العنكبوت، أولاً لأن المقارنة بين المساجد والأسواق في غير محلها. فالعبادات التي تؤدى في المساجد
يمكن أن تؤدى في البيوت، بينما لا يمكن للناس الصبر لمدة طويلة على توقف عملية البيع والشراء، لأن حياة الناس بعد حين تصبح مهددة. ومن هنا أفتى كثير من العلماء المستقلين الذين نتوسم فيهم النزاهة والعلم، بجواز إغلاق المساجد. وليس صحيحاً ما زعمه البعض من أن هذه الفتاوى إنما صدرت عن علماء السلطان دون غيرهم.
وثانياً، لا تشكل المساجد في معظم بلدان العالم العربي تهديداً للأنظمة الحاكمة حتى تغتنم فرصة الفيروس وتغلقها، فهذه المساجد في مجملها خاضعة للسلطات تماماً، بل هي أسيرة هذه السلطات، ومعظم ما يفترض أن تؤديه من مهام بات معطلاً تماماً.
لا تملك إلا أن تستغرب من الذين يعربون عن سخطهم تجاه السلطات التي أمرت بإغلاق المساجد، بينما لا يبدو أنه يزعجهم الوضع الحالي لها. وليتهم يبادرون بنفس الحماسة للمطالبة بتحرير المساجد من قبضة الدولة الحديثة المتسلطة على كل شؤون الحياة. فالمسجد في الإسلام ليس مجرد مكان للعبادة يفتح قبل الصلاة ويغلق بعدها مباشرة، ولا يخطب فيه إلا من ترضى عنه الأجهزة الأمنية.
إذا كانت القضية قضية عبادة فالأرض كلها متاحة للعبادة، فأينما تولوا فثم وجه الله. وقد قال صلى الله عليه وسلم فيما رواه الشيخان: "أعطيت خمسا لم يعطهن أحد قبلي: نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل، وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد من قبلي، وأعطيت الشفاعة وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة".
بل يفترض في المسجد أن يكون خلية عمل دؤوب في كل المجالات، ومركز توجيه وتعليم وتثقيف، ومن منبره يصدح العلماء الصادقون بكلمة الحق، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويدعون إلى الله الواحد الأحد، ويوجهون الجماهير نحو إصلاح ذات بينهم وإقامة العدل في الأرض. وهكذا كانت المساجد في صدر الإسلام، ولقرون متتالية. وفي أوج نهضة المسلمين احتضنت داخل حرمها جامعات يغشاها الناس من كل مكان لنهل العلم في كافة المجالات، وكانت مراكز لحرية التعبير، تعقد فيها المناظرات والحوارات، ولم يكن يجرؤ الحكام على تقويض رسالتها كما هو حادث اليوم. ألا يرى هؤلاء الساخطون بسبب إغلاق المساجد خشية كورونا أنها قبل الإغلاق غدت منابرها أدوات لتمجيد الحكام والتسبيح بحمدهم وتبرير سياساتهم وغض الطرف عن انحرافاتهم ومظالمهم؟ ولم يسلم من ذلك حتى الحرمان الشريفان.
تعطيل رسالة المسجد وتحويله إلى مؤسسة من مؤسسات الدولة التي تحكمها أنظمة قاهرة للناس، معطلة لأحكام الشرع ومضيعة لمقدرات الأمة وموالية لمن حاد الله ورسوله، هو المنكر الذي ينبغي أن ترتفع الأصوات استنكاراً له ونهياً عنه
إن تعطيل رسالة المسجد وتحويله إلى مؤسسة من مؤسسات الدولة التي تحكمها أنظمة قاهرة للناس، معطلة لأحكام الشرع ومضيعة لمقدرات الأمة وموالية لمن حاد الله ورسوله، هو المنكر الذي ينبغي أن ترتفع الأصوات استنكاراً له ونهياً عنه. أليس محزناً ألا يتمكن المسلمون اليوم في مساجد كثير من بلاد المسلمين، بما في ذلك بلاد الحرمين، تنظيم حلقات علم للتدبر في آيات الله أو دراسة الفقه أو الحديث أو السيرة النبوية دون أن تقرر لهم أجهزة الأمن من يحق له أن يدرس ومن لا يحق له؟ أوليس محزناً ألا يتمكن الخطباء في كثير من هذه المساجد اليوم إنكار منكر التطبيع مع الصهاينة، ناهيك عن إنكار الربا وغيره من الكبائر التي ترتكب في حراسة أجهزة الدولة وقوانينها الوضعية وبمباركة من أعلى مستويات الحكم فيها؟
أما إغلاق المساجد، ذلك الأمر الطارئ الذي نحن بصدده، فهو يدخل بكل بساطة ضمن ما يمكن أن يجتهده الناس من إجراءات وقائية للحد من تفشي الوباء، ولو تعرض المسلمون في القرن الأول لمثل ما نتعرض له لربما اتخذوا إجراءً مشابهاً. بمعنى آخر، لا علاقة لقرار الإغلاق بأي موقف من الدين، بدليل أنه قرار عام وشامل، تبناه من نحسن ومن لا نحسن الظن فيهم. فهو ذو علاقة بالسعي للحد من انتشار العدوى. ولا بأس بأن يختلف الناس في تقدير الموقف بعد ذلك، بين من يرى أنه ضروري على إطلاقه ومن يرى أن بالإمكان اتخاذ تدابير تسمح بإعادة فتح المساجد واستئناف الصلاة فيها. يظل ذلك في نهاية المطاف اجتهاداً يقصد منه حماية الناس من خطر محدق. أما إنكار وجود هذا الخطر، وبحجة الغيرة على بيوت الله، فهذا ما لا يُعقل، وليس من الدين في شيء. ومن يذهب إلى أن إغلاق المساجد مؤامرة على الإسلام، فهو يفتي بغير علم. فلا مؤامرة هنا، لأن دور العبادة في كل الأديان وفي معظم البلدان أغلقت أو قيدت نشاطاتها، بل وأوقف التعليم، وعطلت المواصلات العامة في كثير من الدول، وتوقفت المصانع، وجمدت كثير من المناشط، وتضررت اقتصاديات أقوى البلدان في العالم، وكان أكثرها تضرراً أكبرها. فأين هي المؤامرة، ومن ذا الذي يتآمر؟ أترانا نحن الذين نتآمر على الصين وروسيا وأمريكا ودول أوروبا؟ لو كان كذلك، فيا سعدنا.