هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
حين نتحدث عن الانتفاضة الثالثة فلسطينيا، فنحن نتحدث عن حدث بالغ الأهمية، لن تكون تداعياته محصورة في المجال الفلسطيني، بل ستتجاوزه إلى المجال العربي والإقليمي، فكيف ذلك؟
نستعيد هنا مشهد الانتفاضة الثانية (انتفاضة الأقصى)، وما فعلته بالمجال العربي والإقليمي، فحين اندلعت تلك الانتفاضة كان مشروع أوسلو قد وصل مستويات مهمة، حيث تم الوصول إلى صيغة السلطة الفلسطينية بطبعتها التابعة للاحتلال، والتي تقدم له خدمات أمنية واقتصادية وسياسية.
كانت السنوات ما بين توقيع أوسلو 1993، والانتفاضة (2000) قد شهدت اختراقات صهيونية واسعة النطاق في المجال العربي والإفريقي، وربما في العالم أجمع، إذ نشأت للكيان علاقات مع دول لم يحلم بعلاقات معها، من بينها عدد كبير من الدول العربية، الأمر الذي تراجع قليلا بعد التفاهم المصري السعودي السوري في قمة الإسكندرية مطلع 1996، لكنه لم يسفر عن وقف تلك العلاقات، الأمر الذي تغير بعد الانتفاضة (أيلول 2000)، وذلك مباشرة بعد قمة كامب ديفيد؛ تموز من ذات العام.
بعد اندلاع الانتفاضة، بدأت الدول التي أقامت علاقات مع الكيان بتغيير موقفها، وتم إغلاق سفارات وقنصليات وممثليات في عدد كبير من الدول العربية والإسلامية والإفريقية، وغيرها أيضا.
قمة الإسكندرية كانت بمثابة استشعار لخطر تمدد المشروع الصهيوني في المنطقة وهيمنته عليها، بخاصة بعد أن كشف أحلامه على هذا الصعيد (نظرية "الشرق الأوسط الجديد")، وبعد أن تبين في قمة "كامب ديفيد" أن ما يُعرض على الفلسطينيين ليس دولة حقيقية على الأراضي المحتلة عام 67، بما فيها القدس الشرقية، بل كانتونات معزولة عن بعضها البعض على أجزاء من الضفة الغربية (مع قطاع غزة)، بدون القدس، وبدون عودة اللاجئين. لكن الانعطافة في مواجهة المشروع، لم تكن لتتم لولا الانتفاضة.
اليوم يبدو الوضع أسوأ بكثير مما كان عليه الحال خلال التسعينيات، فالصهاينة يشحذون سكاكينهم للإجهاز على القضية الفلسطينية، وهو ما لن يتم من خلال "صفقة القرن" التي لم يقبل بها أحد، وإنما من خلال "الحل الإقليمي"، والذي يعني تطبيعا عربيا واسع النطاق، مع إبقاء وضع سلطة الحكم الذاتي على حاله، مع بعض التحسينات، وهو ذاته "الحل الاقتصادي" الذي تحدث عنه نتنياهو قبل سنوات طويلة، وهو ذاته أيضا مشروع "الدولة المؤقتة"، أو "الحل الانتقالي بعيد المدى"، بتعبير شارون.
هذا يعني أن القضية ستكون برسم التصفية، فيما سيكون الأردن أمام مشروع التوطين أو الوطن البديل، بينما يقوم الصهاينة باختراق وضع عربي مشرذم، سيسهل عليهم اللعبة على تناقضاته، وفي ظل حشد مذهبي بشع، وصراع بين إيران والمحيط العربي، أو بعض محاوره، وفي ظل أنظمة تقدم صراعات الداخل على مواجهة الاختراق الصهيوني، بل تطلب رضا الصهاينة من أجل تثبيت وضعها الداخلي.
هنا سيكون اختراق المنطقة ميسورا، لكن الأمر سيكون مختلفا في حال اندلاع انتفاضة فلسطينية ثالثة، حيث سيتكرر مشهد ما بعد انتفاضة الأقصى، إذ ستضغط الجماهير العربية أكثر فأكثر من أجل وقف ألعاب التطبيع، ومنع تطورها نحو علاقات معلنة، ومن ثم عدم السماح باختراق الصهاينة للمجال العربي.
ليس هذا فحسب، بل إن انتفاضة كهذه يمكن أن تهمّش الصراع الإقليمي، وتسمح بتسويات، لا سيما أن المشروع الإيراني يرفع شعار المقاومة والممانعة، وحين تغير الأنظمة العربي موقفها من الملف الفلسطيني، فسيكون بالإمكان الحديث عن وقف الصراع المذهبي عبر تسويات مقبولة لكل الأطراف، وسيكون الوضع أفضل في ظل احتدام الصراع بين أمريكا والصين، وبين أمريكا وروسيا أيضا، وحاجة كل محور من محاور الصراع الدولي إلى استقطاب أطراف لصالحه.
هكذا ستشكل الانتفاضة الفلسطينية محطة بالغة الأهمية، ليس في سياق دفن مشروع تصفية القضية، مع فرصة لفرض تراجع كبير على الصهاينة، بل في سياق منع اختراق الصهاينة للمجال العربي وهيمنتهم عليه، ومن ثم إيجاد تسويات عربية وإقليمية توقف النزيف البشع الراهن. ولا شك أن القوى الحيّة في الأمة، والتي خاضت صراعات مع الأنظمة خلال الربيع العربي ستقبل حينها بمصالحات داخلية، تقديما منها للصراع مع المشروع الصهيوني، تماما كما فعلت من قبل في المرحلة السابقة التي تحدثنا عنها آنفا.
من هنا تتبدى جريمة أولئك الذين يحولون بين الشعب الفلسطيني، وبين تفجير انتفاضته؛ عبر تكريس سلطة في خدمة الاحتلال، إذ غنهم لا يسهّلون مشروع تصفية القضية وتبديد فرصة فرض تراجع على العدو، بل يحرمون المجال العربي والإقليمي من فرصة جيدة لتغيير مجرى البؤس الراهن، وإن كان البعد الأول كافيا بكل تأكيد، وهو هدف الانتفاضة قبل أي شيء آخر.