مقالات مختارة

الغرب والحرب السيبرانية ومكافحة الوباء

جيمس ستافريديس
1300x600
1300x600

قبل عقد من الزمان، عندما كنت أتولى قيادة قوات حلف شمال الأطلسي في أفغانستان، كنت أشعر في بعض الأحيان كما لو أنني أعيش عبر مؤتمر يُدار بالفيديو عن بُعد - أو ما نُطلق عليه في المصطلحات العسكرية مسمى «في تي سي». ولم تكن مثل هذه التقنيات مؤكدة تماما، وكانت تقع بعض العثرات المتكررة بين الحين والآخر مثل: توقف الشاشات، وصدى الصوت المزعج للغاية، وأنماط الكلام المتأخرة، وبعض الشرائح المفقودة من العروض التقديمية. ولقد جرى ترتيب العديد من الإحاطات، بشأن مستويات القوات وبعض المسائل والمشاكل الاستراتيجية الأخرى، مع مديري المباشر وقتذاك، وهو السيد روبرت غيتس وزير دفاع الولايات المتحدة، ولقد كانت تلك الإحاطات ممكنة فقط بسبب القدر الكبير من الصبر الذي كان يحظى به هذا الرجل، فضلا عن إمكانات اكتشاف الأخطاء، وسرعة إصلاحها لدى فريق الفنيين ممن هم تحت قيادتي. بيد أن هذه الجلسات والإحاطات عن بُعد كانت تتسم بميزة إيجابية واحدة ومهمة، أنها كانت آمنة إلى درجة كبيرة، وتُدار عبر دوائر فائقة السرية. غير أن هذه ليست هي الحالة الراهنة بالنسبة لمثل هذه التقنيات في عالمنا المعاصر اليوم.


على غرار العدو الخفي غير المرئي المتمثل في وباء «كورونا» الراهن، لا يمكن أبدا رؤية التهديدات السيبرانية حتى تكشف عن نفسها تماما في العالم الحركي من حولنا. غير أن التهديدات ثلاثية الأبعاد من الأنشطة الإجرامية، ومخاطر الأمن القومي الكبيرة، والقراصنة والمتسللين غير المنتمين لدولة بعينها، أصبحت أكثر وضوحا للعيان، لا سيما مع شيوع الوباء الأخير وانتشاره. ونظرا لأن المزيد من الأعمال والأنشطة التجارية الأساسية، والاتصالات المحلية والدولية، والحوكمة عبر أرجاء العالم كافة، باتت تجري عبر شبكة الإنترنت - من خلال منصات هي في الغالب غير مضمونة، وغير آمنة تماما، ويسهل استغلالها بكل سهولة - تحول الفضاء السيبراني حول العالم إلى ما يشبه البيئة الغنية بالأهداف والجاذبة للقراصنة بصورة متزايدة يوما تلو آخر.


هل تريد الاطلاع على التقارير الداخلية للأرباح لدى إحدى الشركات قبل إصدارها على المجال العام؟ يمكنك بكل بساطة النقر على صفحة محاضر اجتماعات مجلس الإدارة على الإنترنت. وإن كنت تبحث عن ميزة بعينها في إحدى الصناعات التحويلية، أصبح أغلب مهندسي الشركة يعملون من منازلهم الآن، ويناقشون التحسينات الجديدة عبر مختلف المنصات والدوائر غير الآمنة. وإذا شعرت بالحاجة إلى التسبب في إحراج شركة كبيرة، يمكنك الوثوب إلى صفحة المؤتمرات الداخلية في الشركة عبر نظم إدارة الموارد البشرية؛ إذ أصبح أغلب الأفراد يستعينون بتطبيقات إدارة المؤتمرات عن بُعد غير الآمنة بالمرة.


بطبيعة الحال، أصبح خصوم الولايات المتحدة على علم بتلك التطورات، سواء من الناحية الإجرامية البحتة، أو فيما يتعلق بقضايا الأمن القومي ذات الحساسية البالغة. ورصدت مختلف وكالات الاستخبارات في الولايات المتحدة ارتفاعا كبيرا في معدلات تلك الأنشطة لدى أربع دول، لا ينبغي لاسم أي منها أن يثير الاستغراب أو المفاجأة. وكانت الدولتان الأوليان اللتان تمثلان اللاعبين السيئين المتكررين لدينا في كل سيئة من السيئات، هما إيران وكوريا الشمالية، اللتان تملك كل منهما إمكانات عالية فيما يتعلق بقدرات الحرب السيبرانية، وهما تعتبران استغلال ما بات يُعرف بتقنيات النطاق الخامس معادلا مكافئا جيدا للغاية في مواجهة القدرات العسكرية التقليدية المتقدمة، التي تحظى بها الولايات المتحدة. وبطبيعة الحال أيضا، تتصدر روسيا المشهد كالمعتاد، من حيث تعزيز العلاقات التكافلية مع مختلف أركان العالم الإجرامي. ولكن الدولة التي ينبغي أن تلقى جُل اهتمامنا وانتباهنا راهنا هي الصين؛ فهي الجهة الأكثر استفادة على الإطلاق من حيث مكاسب الحصول على المعلومات الصناعية المتطورة التي يمكن الاستعانة بها من قبل القطاعين الحكومي والخاص في الصين، فضلا عن تاريخ طويل وموثق بما فيه الكفاية من القيام بذلك خلال السنوات الماضية.


هناك قدر من المخاوف المشروعة بشأن واحدة من أكثر المنصات شعبية في عالم التواصل الاجتماعي، وهي منصة «زووم». وهي من الوسائط الجيدة نوعا ما، من حيث جودة صورة الفيديو، وجودة الصوت، وسهولة الاستخدام. غير أن زميل السلاح القديم الجنرال مايكل هايدن، المدير الأسبق لكل من وكالة الاستخبارات المركزية ووكالة الأمن القومي الأمريكيتين، قد أثار بعض المخاوف بشأن روابط تطبيق «زووم» مع الصين - بما في ذلك 700 من موظفي تلك الشركة يعملون هناك. ولقد تقدمت الشركة باعتذارها في الآونة الأخيرة للمستخدمين إثر توجيه بعض المكالمات التي خرجت من أمريكا الشمالية عبر خوادمها في الصين. ولا غرابة في أن تايوان قد حظرت تماما استخدام تطبيق «زووم» في الاتصالات الرسمية في الدولة.


وفي حين أن الشركة قد أعلنت أنها تواصل العمل على تحسين الضوابط الأمنية مع الاستجابة القوية لتقارير علاقتها وارتباطها بالصين، فإن منتجها الأساسي صار بمنزلة المثال الرئيسي على الثغرات الأمنية التي يمكن استغلالها. وتعمل الشركات بصورة متزايدة على العثور على المنصات الأكثر أمانا من التي لا تزال جديدة نسبيا على العالم التقني، فلقد استغلت شركة «مايكروسوفت» الأمريكية السمعة السيئة التي واكبت تطبيق «زووم» الصيني في الترويج لتطبيق «تيمز» الجديد لديها. بيد أن خلاصة القول تكمن في أنه لن تكون هناك خدمة تقنية تعمل بصورة مثالية تماما.


يبدو من المحتمل أننا سوف نستعين بتقنيات مؤتمرات الفيديو عن بُعد لفترة طويلة مقبلة، وربما يؤدي انتشار وباء «كورونا» بنا إلى التحول الدائم نحو العمل من المنازل. وبالنسبة إلى الولايات المتحدة، فإن ذلك الأمر يستلزم بذل الجهود الجماعية في تأمين الاتصالات الحكومية، والاتصالات الصناعية، والبنية التحتية الطبية، وغير ذلك من القطاعات ذات الأهمية. إن تبادل المناسبات الاجتماعية مع الأصدقاء القدامى عبر الدوائر التقنية شبه الآمنة من الأمور المقبولة نوعا ما، ولكن عند الاستخدام الجاد لا بد من اعتماد المستويات العليا من التشفير.


وقد تكون البداية العملية لدى إحدى الشركات متوسطة الحجم، على سبيل المثال، من خلال إنشاء نظام مزدوج للمعلومات، حيث يُسمح بإجراء المداولات اليومية عبر نظم أقل أمانا يسهل للجميع استخدامها، في حين أن المعاملات الفائقة الحساسية تتم عبر دوائر أكثر حماية وأمانا. وينبغي على الحكومة أن تضطلع بدورها الرئيسي في توفير المشورة بشأن ذلك، وأن تطلب من الشركات التي تتعامل مع الوكالات الفيدرالية الحكومية إثبات التزامها المعايير العالية من السرية، على نطاق الإنترنت بصورة عامة وعلى نطاق مؤتمرات الفيديو بصورة خاصة. وبالنسبة إلى وزارة الدفاع - مع مئات الآلاف من المقاولين الدفاعيين - فإن ذلك الأمر لا بد أن ينضوي تحت مظلة اعتماد نموذج نضوج الأمن السيبراني الذي جرى إطلاقها في وقت سابق من العام الحالي.


يشير الانتشار الواسع النطاق لمؤتمرات الفيديو عن بُعد، في عصر انتشار فيروس «كورونا»، إلى التقدم الكبير الذي أحرزته تكنولوجيا الاتصالات منذ أن كنت أناقش مجريات حرب أفغانستان مع الوزير روبرت غيتس، عبر شبكة اتصالات مرئية بالغة الاهتزاز. ولكن يتعين علينا ضمان أن التحسينات الجديدة المستحدثة في نطاق الأمن السيبراني، تواكب التطور التكنولوجي المحرز في ذلك المجال، سواء بسواء.

 

(الشرق الأوسط اللندنية)

0
التعليقات (0)