هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
طالعتنا الجريدة الرسمية في مصر بتاريخ السبت الموافق الثامن عشر من نيسان/إبريل، بخبر إدراج محكمة جنايات القاهرة ثلاثة عشر شخصا على قائمة الإرهاب، من ضمنهم النائب البرلماني السابق، وأحد قيادات شباب الثورة زياد العليمي، ورامي شعث الناشط السياسي ومنسق فرع مصر في الحملة العالمية لمقاطعة إسرائيل، وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات عليها (BDS ).
لو عدنا للوراء قليلا، سيسهل على الذاكرة أن تسعفنا باعتقال زياد إلى جانب الصحفي هشام فؤاد، والخبير الاقتصادي عمر الشنيطي، وحسام مؤنس المتحدث باسم الحملة الرئاسية لحمدين صباحي في أواخر حزيران/يونيو من العام الماضي، مع آخرين في قضية شهيرة عرفت في حينها بقضية «الأمل».
خبرٌ عابر، هكذا صار إدراج هذا أو ذاك من المواطنين أو مجاميع بأسرها على قائمة الإرهاب سيئة السمعة تلك، قلما يقف عنده غير المعنيين بصورة مباشرة. صار خبرا مألوفا (عادي)، من أركان «العادي الجديد» المصري الذي يخلقه ويرسخه نظام السيسي. لكن ذلك الخبر المختزل المكرر حد السماجة والابتذال، مما يحيل إلى أسئلة تلح عليّ وأراها جديرة بالتوقف عندها: أولها ما هي «مؤهِلات» الإدراج في قائمة أو قوائم الإرهاب تلك؟ يقينا بتصفح تاريخ بعض الأسماء، التي ذكرت يتبين أنه من السذاجة المفرطة تصور الإرهاب الفعلي، ناهيك عن الانتماء لتيار أو فصيل إسلامي، ومن ثم حمل السلاح؛ فهؤلاء على سبيل المثال لا الحصر، مسالمون تماما، لم ينادوا يوما بحمل أي سلاح سوى الكلمة والموقف، وجلهم ينتمي إلى اليسار، صراحة وجهارا نهارا دون مواربة، لذا فمجرد وصف الحكم والإجراء بالصفاقة لا يفي تفسيرا.
ينبغي لنا أن نرى ونقرأ في الإدراج على قوائم الإرهاب، حكما باللعنة إذا أردنا الاستعارة من التاريخ الكنسي، تماما كما كان يُنبذ الهراطقة والمجدفون خارج الكنيسة ما أحل دماءهم في أحيان كثيرة، هو نوع من الفصل الإداري، يضع المتهم أو المُدرج خارج المجتمع الذي يحتكر النظام تصريف شؤونه وسياسته، التحكم في كيانه، وهو مجتمع أكثر انضباطا، يتبع تراتبية صارمة، يقع العسكر جيشا تليهم الشرطة على رأسه، وفق تصورات السيسي الراسخة، التي لا نعرف بالضبط منبعا لها، وإن كنا نرى عن قرب وبوضوح تجلياتها، ولا نملك إلا أن نلاحظ عن كثب المنحى الفاشستي تماما لقناعاتها، عن إعادة صب وهيكلة المجتمع، الذي لا شك في أنه هو ضابط المخابرات الحربية، يراه رخوا ثرثارا، سُمح له إبان حكم مبارك بالحديث، ولو من قبيل التسلية، ما أوصل لـ«هوجة» و«انفلات» يناير، الذي يعدنا مغلظا بأنه لن يتكرر.
ما ذلك الإدراج إلا حكمٌ بالإعدام المدني، لا أقل. سيف إرهابٍ مسلطٌ على رقاب الناس.
ولما كان الحديث عن تنظيم يساري إرهابي، سيعد هزرا سخيفا ممجوجا، فلا مفر من الإدراج تحت الإخوان المسلمين، والتنظيمات الإسلامية الأخرى، ولا حرج، فالحل بسيط، إذ بمقدور كتبة النظام تلفيق أي علاقة، أوالتفنن في اختلاق رواية عن تحورات فكرية طرأت على أي شخص في السجن. لا تبحث عن العلل، أو مسوغات الإدراج فلن تجدها، وأنصحك بالشك في ما قد تتعثر به منها، في حق أي مواطنٍ أيا كان اتجاهه، فالشفافية والعدالة والتجرد منعدمة، ومن غباء النظام أنه لا يدرك أنه بذلك الخلط بين الإرهاب الحقيقي (وهو موجود دون شك) والتنكيل بالمعارضين، يضرب مصداقيته من الأساس، بل أدعو إلى رؤية الأمر على حقيقته العارية؛ إن للنظام ثأرا مع معارضيه وناشطي يناير؛ ولا يحتاج الأمر لأن يكون المُدرج قد فعل أي شيء، إذ تكفي كلمةٌ اعتبرت خارجة أو جارحة لشخص السيسي، أو أي من الضباط الكبار في المؤسسة العسكرية، كلمة سُجلت على المرء ولا بد من دفع ثمنها.
لا بد من قراءة الصورة، لا في ضوء البعد الطبقي وانحيازات النظام، وعلى رأسه السيسي فحسب، وإنما في ضوء تكوينه الانتقامي وقسوته التي تتستر وراء نعومة فجة، تعبر عن نفسها بسخافة في أحيان كثيرة، بالإضافة إلى ذلك فينبغي ألا نهمل دوافع الثأر وتصفية الحسابات لدى منظومة الأمن، وعلى رأسها وزارة الداخلية، التي أُطلقت يدها فصارت لا تتمتع بنوع من الاستقلالية والحركة الذاتية، التي تسمح بها طبيعة المؤسسة فحسب، وإنما بدعم مباشر وتحريض تصطف فيه ضمن سياسة النظام، ووفق رؤيته لإعادة إنتاج نفسه وتنظيم المجتمع وضبطه ولجمه.
إن التلويح بتهمة الانضمام لتنظيم إرهابي يذكرنا، بذلك الشعار العبيط الذي أطلقته علينا ثورة يوليو المجيدة «كل الحرية للشعب ولا حرية لأعداء الشعب»، أي إنه تهديدٌ بالإقصاء خارج جسد المجتمع والحريات، موتٌ بطيءٌ معذبٌ في السجون، ولا يستتر النظام في فعلته، على العكس من ذلك، بل يُعلن على الملأ. لا أظنني بحاجة هنا لأن ألفت الانتباه إلى ما في ذلك النهج من إرهاب بدوره، تدعمه أجهزة الدولة وسلاحها، فالنظام لا يكتفي باحتكار أدوات السلطة والعنف فحسب، بل يريد احتكار الإرهاب بترويع المواطنين من أن تسول لهم أنفسهم المعارضة.
تصادف حادث خالد سعيد (مع ما له من دور في التمهيد ليناير) مع بدايات كتابتي للمقالات بصورة منتظمة، وقد رأيت في ذلك الحين أن سبب الضجة لم يكن تعدي الشرطة الوحشي على خالد سعيد فحسب، فهذه التعديات مألوفة و «طبيعية»، تقع بصورةٍ يومية على مواطنين كثُر في أنحاء مصر، إلا أن الفارق حينذاك كان أنهم ينتمون للطبقات دون المتوسطة في المجمل. في حالة خالد سعيد هاجت وفزعت الطبقة الوسطى، إذ رأت آلة العنف التي تعتمد عليها وقد خرجت عن السيطرة، فضربت أحد أبنائها. الآن، تُدعى هذه الآلة من الثورة المضادة بقيادة السيسي للقيام بذلك تحديدا: إفلات العنف. ناهيك بالطبع من دوافع الشرطة الذاتية، من شهوة الانتقام مما لحق بها من إهانةٍ مباشرة في يناير بما يفوق أي شيءٍ تعرض له الجيش.
أجل، هو خبرٌ عابر إدراج المواطنين على قائمة الإرهاب، لكنه يستبطن جحيما من إهدار الحريات وقيمة الحياة البشرية، خبرٌ عابر يراد له أن يكون موجزا ليوصل رسالة: يا من تعارضون، لا قيمة لكم ولا دية، سندوس عليكم كحشرة، كشيء تافه عاب، فالتهم والأضابير جاهزة كما تندر العبقري الراحل الماغوط. أجل خبرٌ عابر يجعل من الإهدار والموت أمرا عابرا أيضا، ولا يهم، فسوف نلهي الناس بمسلسل يتغنى بالشهادة والتضحيات للضباط الوسيمين والجنود البواسل. وفي النهاية الكل لا قيمة له إلا أن يُقدم قربانا لصنم الدولة والنظام.
(القدس العربي اللندنية)