هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
"كان الباب حقًّا مفتوحًا، وبالداخل كان أناس لا يعرفهم يتحركون بلا وعي كالأشباح من غرفة لغرفة فيصطدم بعضهم ببعض دون أن ينتبه أحد. وقف على باب البيت يراقبهم، كانوا جميعًا بعيون مفتوحة، بعضهم يرتدي ملابسَه، بعض آخر يمسح حذاءه، بعض ثالث يُعِدُّ طعاما. وقبل أن يُطلق صرخة مدوّيةً ليطردهم، وجد زوجته واقفة على باب غرفة النوم بجلبابها الطويل، تقول بكل هدوء الدنيا، ألم أُخبِرك أنك تسير نائمًا. انتبه بشِدّة، نظر حولَه، لم يجد أحدًا سواها فهرول إلى مرآة الحمّام، نظر لملبسه، لشعره الأشعث، وبحث في وجهه عن شخص كان يعرفه من زمن، فلم يَجِده".
في الفقرة السابقة تتضِح عِدّة خصائص مميِّزة للسرد في رواية (صانع المفاتيح) لأحمد عبد اللطيف، تلك الرواية الصادرة عام 2010، الحاصلة على جائزة الدولة التشجيعية عام 2012. فأوّلاً، هناك هاجِسُ انفتاح الحواسّ على مراقبةِ الآخَرين، فالبطلُ واقفٌ على باب البيت يراقب مَن هم في بيتِه، والآخَرون جميعًا "بعيونٍ مفتوحة"، وهذا الوصف ليس اعتباطيًّا في سياق الرواية، بل هو محوريٌّ تمامًا كما سنرى بعد قليل. وثانيًا، هناك تأسيسٌ لحالة الحُلم، أو هو الكابوسُ بالأحرى. فالبطلُ يكتشفُ أنه يَحلُم أثناء سيرِه نائمًا، ومضمونُ الحُلمِ مزعِجٌ بالنسبة له، إذ هو أمامَ آخَرين لا يعرفُهم، يجوسون في بيتِه، أو ربّما في عَقلِه. وثالثًا هناك هامشيّةُ الحِوار، وهي تتأسس هنا بطريقة كتابة الحِوار كجزءٍ من سَطرٍ في فقرةٍ سرديّةٍ، تفصل بينه وبين ما حولَه علاماتُ الترقيم، لا كسطرٍ منفردٍ يقطع استرسالَ السَّرد كما في التقاليد الكتابيّة الأكثر شُيوعا.
فإذا عَلِمنا أنّ هذه الفقرةَ تأتي بعد أن يُخبرَنا الراوي العليمُ بأنّ الزوجةَ أخبرَت البطلَ بأنه يمشي نائمًا، "فقرّرَ داخِلَ عقلِه أن يراقبَ نفسَه وأن يسير وراءها، أن ينتبه لنفسه حتى وسطَ عدمِ إدراكِه"، عرَفنا أنّنا في هذا الفصل الأول من الرواية (رغم عدم ترقيم فُصولِها) مُوشِكُون على دخول متاهةِ وعيٍ مُعَذَّبٍ بمُدرَكاتِه وبما يصبُو إليه.
* ملخّصٌ مُخِلٌّ للأحدث:
وكلُّ ملخّصٍ مُخِلٌّ بالضرورة! تحدثنا الرواية عن صانع مفاتيحَ وَرِثَ هذه الحرفة عن أبيه. ربما ننخدع في البداية بطبيعة الحرفة، فنتصور أننا إزاء بطلٍ بسيطٍ يقدِّم لنا الراوي العالَمَ مِن وجهةِ نظرِه بصِفَته مُهمَّشًا وينتصِر لإنسانيتِه، كما كان يفعل الأديب الكبير (خيري شلبي). لكن المؤلّف يسرِّبُ لنا شذراتٍ عن تعقُّد وعي بطلِه، فهو يحب أن يقضي وقت فراغِه في قراءة رسائل ابن عربيّ، ويحدثُنا عن تأملاتِه التي تحوم حول نظرية المعرفة "في طفولتنا يعلموننا أن الشجرةَ شجرةٌ والجبلَ جبل، وفي شبابنا نسأل أنفسَنا هل حَقًّا الشجرةُ شجرةٌ والجبلُ جبل؟ وفي شيخوختِنا نعلم عن يقينٍ أن الشجرةَ شجرةٌ وأن الجبلَ كان جبلاً، وأننا أضَعنا عُمرنا في أسئلةٍ نعرفُ مسبقًا أجوبتها." كما نعرف في نهاية الرواية بلسان أحد أهل القرية شيئًا عن طفولة صانع المفاتيح وأنه التحق بالأزهر وأبدى قبل ذلك نبوغًا في حفظ القرآن وشغفًا بالقراءة.
تقع أحداث الرواية بالكامل في بلدةٍ مصريةٍ لا يسميها المؤلف، يتمحور النشاط الاقتصادي الرسمي فيها حول مصانع السكّر. المهم أن صانع المفاتيح محبوبٌ في بلدتِه، وأهل البلدة لا يجدون غيرَه يحكون له كُلَّ ما يدور أمام أعينهم وما يسمعونه من أخبارٍ صادمةٍ عن فندق (لاللي) ومستشفى الرحمة! المستشفى يديرها الدكتور ابن صانع المفاتيح، المتخصص في جراحة العيون، والفندق يمتلكه (لاللي) المنحدر من جذور إيطالية كما تشي أسماء آبائه (روبرتو وأنطونيو وألبيرتو وصولاً إلى ألفونسو الخبير في مصنع السكّر وقت افتتاحه). في المستشفى الخيري المبني بأموال (لاللي) قسمٌ للأمراض النفسية يؤوي مجانين القرية، وهؤلاء يستغلهم الدكتور كمخزن للقَرَنيّات التي يسرقها من أعينهم ويزرعها في أعيُن المكفوفين الأثرياء. وفي الفندق الفخم تنتعش تجارة الأجساد ويزدهر نشاط بائعات الهوى. ونعرف أنّ (لاللي) كان صديقًا وزميلاً للدكتور بكلية الطب، ثم ترك الدراسة وقرر أن يستغل موقع البلدة على أطراف القاهرة وقريبًا من النيل والأماكن الأثرية ليبني مشروعه السياحيّ الخاصّ الذي أصبح بؤرةً للسياحة الجنسية.
تتكاثر الحكايات حول فظائع المكانَين وتؤرّق صانع المفاتيح، فيقرر أن يصنع مفتاحًا للسمع، يغلق به سمعَه فلا تصل إلى أذنيه هذه الحكايات! يجرّب المفتاح على زوجته أوّلاً ثم يصنع آخر لنفسِه، ثم ينتشر الخبر في البلدة ويتكالب أهلها على محلّه ليصنع لهم مفاتيح تريحُهم من الحكايات المؤرّقة عن مستويات الفساد الخيالية التي غرقت فيها بلدتهم.
نعرف كذلك أنّ الدكتور كان يحبّ بنتًا اسمها (جميلة)، زوّجها أبوها لثريٍّ عربيٍّ، أو هو باعَها لهذا الثريّ بمقابل ماليّ كبيرٍ إن شئنا الدِّقّة، وأنّ مِثل هذه الزيجة أصبح شائعًا تمامًا في البلدة. تعود جميلة من سفرها مُطلَّقَةً، وتعمل بالرذيلة في فندق لاللي، وتلتقي بالدكتور من جديد. يتصادمان في سؤال الشرَف، لكنهما يتزوجان حين يتغلّب حبُّهما القديم على انكساراتهما الخُلُقيّة. خلالَ ذلك تظهر جماعةٌ من المُلتَحين الناقمين على أحوال البلدة، يهاجم أفرادُها الفندق والمستشفى ويضربون الدكتور ضربًا مبرّحًا، ويبدو أنّ هذا الحَدَثَ يؤازرُ أحداثًا أخرى كعودة جميلة، وشذراتٍ من الندم واستيقاظ الضمير لدى الدكتور، ومِن جماع هذه الأحداث يقرر الدكتور التوقُّف عن إجراء عمليات سرقة القرَنيّة. لكنّ لاللي يهدده بفضحِه بشرائطَ مصوَّرَةٍ له في غرفة العمليات ولزوجته (جميلة) مع زبائنها في الفندق. ويجد الدكتور نفسَه في ورطة.
المهم أن أهل البلدة لم يكتفوا بمفاتيح السمع، فيلجأون إلى صانع المفاتيح ليصنع لهم مفاتيح يغلقون بها أبصارَهم. يرفض الرجُل في إصرارٍ، لكنّ صبيّه ينتهز الفرصة ويلبّي طلبَهم ليأخذ حظّه من الثراء، ثم يتطور الأمر إلى مفاتيح للألسنة كذلك حتى لا يستطيعوا الكلام.
تنتهي الرواية بمشهدٍ صارخ القسوة، نتأكد فيه أنّ الغلَبَة كانت لـ(لاللي)، حيث نكتشف أنّ هناك مَن سرقَ مفاتيحَ السمع والبصر واللسان من أهل البلدة، بإيعازٍ من لاللّي، وحَبَسَ صانعَ المفاتيح وصبيَّه في قصرٍ منيفٍ، لتتحقق نبوءةُ عرّافةٍ قديمةٌ بأن الصبيَّ – الذي سيصبح صانع المفاتيح - سيُثري ثراءً كبيرًا لكنه سيموتُ محبوسا.
* الحُلمُ والواقعية السِحريَّة:
كما شكَّلَ سَيرُ صانع المفاتيح أثناءَ نومِه مُفتَتحًا يوضح لنا قلقَه وكَربَه في الفصل الأول، نجد أنّ الأحلام والنبوءات وخيالات اليقظة تمثّل نقاطًا مرجعيةً في الرواية. فهناك أحلام الدكتور، ومنها الحُلم الذي يرى فيه مخلوقًا بشِعًا يقف في سكونٍ أمام سريرِه بعينٍ واحدةٍ وأظافر طويلةٍ ووجهٍ مقسَّمٍ كرقعة الشطرنج، فيسأله إن كان ضميرَه فلا يرُدُّ لكنّه يقطف شعرَه معذّبًا إيّاه، وهناك خيال اليقظة الذي يراودُه كلّما نظرَ في المرآة حيث يرى وجهَه دون عينين (وسيُرزَق بطِفلٍ مشوَّهٍ بهذا الشكل من زواجِه بجميلة لاحِقًا)، وهناك أحلام جميلة، كالحُلم الذي ترى فيه أهل القرية يُهرَعون إلى حفرةٍ ضخمةٍ يسقطون فيها.
في الحُلم يتعطّل منطِق الحياة اليومية، وهكذا الحالُ في الواقعيّة السحريّة. فالعالَم الواقعيُّ الذي تصفُه الرواية يقتحمُه عنصُرٌ سحريٌّ موغلٌ في الغرابة هو المفاتيح المصنوعة من الجلد الصُّلب للسمع والبصر واللسان. ولنا أن نتخيّل روايةً أخرى يخترع فيها شخصٌ مفاتيح للحواسّ، لكنّ الراوي يُمِدُّنا ببعض الأُسُس العلميّة لهذا الاختراع، حتى وإن كانت مغلوطةً أو ناقصة. تلك الرواية الموازية كانت ستندرج في الخيال العلمي، أمّا هنا فالقفزة المنطقيّة واسعةٌ للغاية وغيرُ مُبَرَّرةٍ على نحوٍ يستطيع العقلُ أن يفحصَه، وهو أمرٌ مقصودٌ في الواقعية السحريةِ إجمالاً، حيث يفرُغ الكاتبُ بفضلِه لأشياء أهمَّ من وجهة نظرِه يوَدُّ قولَها أو لفتَ انتباهِنا لها. إنه سقوطٌ صادمٌ لحواجز العقل يجعلُ العملَ الأدبيَّ أقربَ إلى متتاليةٍ من لوحاتٍ تشكيليّةٍ لفنّانٍ مُغرَمٍ بكسر قوالب الواقع مثل (مارك شاجال)! ولعلَّ هذا ما حَدا بالمؤلِّف إلى اقتباس (پابلو نيرودا) في مدخل الرواية: "مَيِّتٌ هو ذاكَ الذي لا يقلب الطاولةَ ولا يسمح لنفسه ولو لمرَّةٍ واحدةٍ في حياته بالهرَب من النصائح المنطقيّة".
كذلك نجدُ ما أسلفنا قولَه من ثانوية الحوار وهامشيته في الرواية، حتى إنه قد يتأرجح بين العامية والفصحى دون سببٍ واضحٍ أحيانا. وهذه الهامشية تكرّس موقفَ السارد المتعالي الذي يريدُنا مثلَه مُتَعالِين غير متورّطين في الأحداث، وإنما نراقبُها من بعيدٍ بمنظارٍ مغبَّشٍ بعض الشيء، يتيح لنا قدرًا أكبر من التأمُّل واكتناه الصُّورة في تمامِها وإن جاء هذا على حساب التفاصيل الدقيقة. وهو مسلَكٌ سرديٌّ يتجاوبُ مع أجواء الحُلم.
كذلك نجد في الرواية مَسًّا خفيفًا من الميتا- سَرد/ الحكاية داخل الحكاية، وهو ملمحٌ مميزٌ للواقعية السحرية ولتيار ما بعد الحداثةِ في الأدب عمومًا، حيث يَنكَبُّ صانعُ المفاتيح - بعد أن يشرع في تنفيذ مفاتيحِه تلك - على تدوينِ حكايات البلدة كما سمعَها ورآها. وابتداءً من هذه اللحظة يتبادَلُ الإمساكَ بدفّة السَّرد مع الرّاوي العَليم الذي ابتدأَت بصوتِه الرواية، ويساعدُ اختلافُ طباعةِ مدوَّنات صانع المفاتيح (بالخطّ العريض) عن طباعة بقية الرواية في أرجَحَتِنا بين هذين الصوتَين. لكنّنا ندرك كذلك من البداية أنّ الراوي العليمَ نفسَه ليس عليمًا تمامًا، فهو يُعطينا احتمالاتٍ مختلفةً لدوافع أبطالِه أحيانًا، كدوافع (الدكتور) للإلقاء بحبيبته القديمة (جميلة) في طريق ممارسة الرذيلة في فندق لاللي "ربما لينتقم منها/ ربما ليختبر شرفَها..."، وينفذُ إلى أدقِّ مشاعرهم أحيانًا، ويتحدثُ بصيغة المتكلمِن أحيانًا قليلةً، كما في الفصل الأول "لكن أغلبَهم – ونعلمُ ذلك عن يقينٍ – كانوا قد ملُّوا من سماع حكاوي فندق لاللي." وهو سُلوكٌ سرديٌّ مثيرٌ للتساؤل: هل يُقصَد به أن يتحدثَ الراوي بلساننا نحنُ قُرّاءَه وبالنيابةِ عنّا، فكأنه بحُكم موقعِه القويِّ كراوٍ يغتصِبُ حقَّنا في الحديث عمّا نعتقدُه؟ أم أنه يتحدث بجماع صِفاتِه كما يتحدثُ اللهُ في القرآن؟ هل يحاولُ إقناعَنا بأننا نقرأ سِفرًا مقدَّسًا بهذه الطريقة؟!
وأخيرًا، ثَمَّ ملمحٌ آخر واضحٌ هنا من ملامح الواقعية السحرية، وهو نقد السُّلطة. في الرواية نجدُ السُّلطة فاسدةً تتعامل مع لاللي تعاملاتٍ خفيَّةً، غاشمةً تُسرع إلى قمع المتمرّدِين المُلتَحين وتنسُب إليهم الرغبة في إشعال حربٍ أهليةٍ دون أن تحاول معرفةَ أسباب تمرُّدهم، أو هي تعرف وتتعامى عنها لأنها أسبابٌ متصلةٌ بمصالِحها. باختصارٍ، جاء كلُّ ظهورٍ خاطفٍ للسُّلطة في الرواية سلبيًّا، ولعلَّ ذلك صدىً للفترة التي صدرَت فيها الرواية، قبل أحداث يناير 2011 في مصر بأشهُر قليلة.
* العِرفان – طريقٌ بديلة:
يتَّصِلُ بمسألة الحُلم مفهومُ العِرفان، بما هو طريقٌ بديلةٌ غيرُ مطروقةٍ لفهم العالَم ولمس الحقيقةِ والتعامُل مع المقدَّس. ولدينا هنا الاقتباسُ الثاني الذي يسوقُه (عبد اللطيف) في مقدمة روايته بعد (نيرودا) "صُمٌّ بُكمٌ عُميٌ" وهو جزءٌ من آيتَين من سورة البقرة، الآية 18 "صُمٌّ بُكمٌ عُميٌ فهُم لا يَرجِعُونَ" والآية 171 "وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لاَ يَسْمَعُ إِلاَّ دُعَاءً وَنِدَاءً، صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ". في الروايةِ يعطينا صانع المفاتيح أسبابَه لإغلاق سمعه كما يعطينا النتائج التي لمسَها لذلك "عندما تفقدُ حاسةَ السمع أو تغلقُها كما في حالتي تصبح أكثر تأمُّلاً، فتسير أفكارُك في خطٍّ مستقيمٍ وتصل للنهاية في أقل وقتٍ ممكن. الصممُ نعمةٌ لا يقدّرها سوى من عاش في ضجيج. لذا أشعر بسعادةٍ جمّةٍ وأنا أسيرُ بالشارع ومنعزلٌ عنه. أطير في عالَمي الخاصّ وأحلِّقُ حول فكرتي عن الله." هكذا يبدو أنّ الصَّمَمَ طريقٌ اختبرَها صانعُ المفاتيح لمعرفة الله. فهل يتّسِقُ هذا الامتداحُ للصمَم مع ما يفهمُه الحِسُّ المشترَكُ من الآيتَين؟!
في الحقيقة لا يتّفِق، فالآيتان تذُمّان مَن يعطّلون وسائل الإدراك، لاسيّما الآية الثانية التي تنفي عنهم صفة العقل. لكننا نفهم من مفردةِ (العَقل) لُغَوِيًّا أنها تعني رَبطَ المُدرَكاتِ المحسوسةِ بُغيةَ فهمِها، فإذا كان أهل البلدة في الرواية قد قرروا إغلاق حواسِّهم، فإنّهم بذلك قد تخففوا من سيل المُدرَكات الصادمة التي تتوالى عليهم ليلَ نهار، فلم يعُد لديهم بالفعل ما يعقلونه! فهل فتح لهم هذا التَّخفُّفُ طريقًا إلى الله كما حدّثَنا صانعُ المفاتيح؟ سَير الرواية يُجيبُ بالنَّفي، بل إنّ ما حدثَ في النهايةِ يتجاوبُ أكثرَ مع نهايةِ الآيةِ الأولى "فهم لا يَرجِعُونَ"، فقد فقدوا مفاتيحهم، وخرجوا إلى طرقات البلدة صُمًّا بُكمًا عُميًا، ولا سبيلَ أمامهم لاسترداد ما فقدوه!
اقرأ أيضا: عن رواية "خديجة وسوسن" لرضوى عاشور
والحَقُّ أنّ هذا التراسُلَ بين الاقتباس القرآني والتيمة الأساسية للروايةِ يُحيلُنا كذلك إلى السؤال المعرفيّ الذي أثاره صانع المفاتيح في الصفحة الثانية من الرواية عن الشجرة والجبلِ ورحلتنا مع معرفتهما من الطفولة إلى الشيخوخة. ربما نتّهم حواسَّنا ونكذِّبُها، لكننا بمجرّد أن نغلقَها تمامًا نكتشفُ أننا فقدنا الحياةَ بذلك. هذا ما يقرره صانعُ المفاتيح بنفسه من أنَّ فقد السمع والبصر معًا موت.
وإنه لمِن المثيرِ أن يصمم (عبد اللطيف) أن يسمّي بطلَه (صانع المفاتيح) ويعنوِن بذلك الرواية، رغم أنَّ وظيفةَ الشيء الذي يستحدثُه البطلُ هي (إغلاقُ) السمع، ثم تلا ذلك (إغلاقُ) البصر والكلام! ألَم يكُن أولى به أن يسميه (صانعَ الأقفالِ) مثَلا؟ في تقديري أنَّ اختيارَ الكاتبِ لم يكن اعتباطيًّا، وإنما هو أرادَ أن يلفِتَنا إلى الطريقِ التي تصوَّرَ البطلُ أنَّ فقدَ الحاسّةِ (يفتحُها) إلى الحقيقةِ، ثُمّ يَدَعُ الأحداثَ تُعقِّدُ هذه الرؤيةَ وتُفاقِمُها ليبقى العنوانُ محمَّلاً بطاقةٍ رهيبةٍ من التساؤلِ الممزوج بالسخرية المريرة. أكانَ فتحًا حقيقيًّا أم إغلاقًا مؤدِّيًا إلى الموت؟!
كذلك يتّصِل بمفهوم العِرفانِ ابتداءُ الروايةِ بوصف الغياب "اختفَت من القريةِ عِدَّةُ مَشاهِدَ كانت مرتبطةً بطفولة صانع المفاتيح/ اختفى طالعُ النخلة/ اختفت رائحةُ البلح والطِّين والهواء النقي." هذا السَّلبُ أو النَّفيُ يمهِّدُ لاستنارةٍ سلبيةٍ على طريقة العرفانيين/ الغنوصيِّين، فما إغلاقُ الحواسِّ بالقياس إلى الممارسة الإنسانية العاديّة إلاّ سَلبًا ونفيًا وغيابًا في النهاية.
* تاريخٌ موجَزٌ للرسالات السماويّة:
هناك إشاراتٌ إلى النُّبُوَّة في صانع المفاتيح. أولاً، هناك الكربُ والقلقُ اللذان عاناهما صانعُ المفاتيح في البداية، وخشيته أن تكون لحظة يقظته هي لحظة احتضاره بسبب المشي نائما. هذا الهاجسُ مَصُوغًا بهذه الطريقة بالذاتِ يبدو تناصًّا مضمونيًّا مع المقولة المتواترة عن الإمام عليّ "الناسُ في غفلةٍ فإذا ماتوا انتبهوا"، وهناك ردُّ فعل الزوجة المُحِبَّة الرؤوم التي يصفها الراوي بأنها "سيدة طيبة، كل ما تبغيه في حياتها إسعاد زوجها ودعوته، وكل ما تخافه أن ينام غاضبًا عليها فتلعنها الملائكة." ألا يُحيلُنا هذا إلى المعروف من أخبار ابتداء النبي صلى الله عليه وسلَّمَ بالوحي وما ساورَه من الهواجس ومواساةِ السيدة خديجةَ له؟!
ثانيًا، نجدُ البطلَ يُبدي إعجابَه في الصفحة الأولى بطالع النخلة وتقديرَه لمهمته وحنينَه لرؤيتِه، ونجدُه حريصًا على صعود الجبل كُلَّ حِينٍ ليُطِلَّ على البلدة من أعلى ويفكّر في أسئلته الوجودية أو يصعد إلى سطح بيته المتهالك ويتفرغ للتأمُّل. هو إذَن مُغرَمٌ بالتسامي والعُزلة، وربما يذكّرنا بجانبٍ آخرَ من حال النبي قبلَ البعثة.
ثالثًا، بعد أن يُؤدِّيَ صانعُ المفاتيح رسالتَه ويُخرج لأهل البلدةِ مفاتيح/ مغاليق السمع، نعرف قُربَ النهاية للمرّة الأولى أن اسمَه يوسف، وهو شيءٌ يتجاوبُ مع حمولة الأحلام والرؤى والنبوءات التي تغصُّ بها الرواية، ونعرفُ أنه قد أتمَّ حفظ سورة يوسف بالتجويد في طفولته خلالَ أربع ساعاتٍ فقط، وأنَّ العرّافةَ تنبَّأت له بشأنٍ كبيرٍ وثراءٍ عظيمٍ سيجنيه قُربَ نهاية حياتِه، لكنه سيموتُ محبوسا. ألا يضعُنا هذا أمام نبوَّةٍ مقلوبة؟! نعرفُ أنَّ النبيّ يوسف سُجِنَ أولاً ثُمَّ صعد إلى المنصب العظيم والمكانة الرفيعة في الدولة، أي عكس ما حدث لصانع المفاتيح بالضبط. ثُمَّ إنّ رسالةَ صانع المفاتيح المقدسة – التي لا نعدَمُ سندًا لنُبلِها في النصوص الحاضّة على قتل الشائعات واجتناب النميمة وفي آيات القرآن المنفّرة من الغِيبة والتجسُّس – تنقلبُ في نهاية الرواية إلى موتٍ معنويٍّ هائلٍ يعُمُّ البلدة، فكأنه يختصر في الأشهر القصيرة التي عاشَها - منذُ جهرَ بدعوتِه (أو صنعَ أولَ مفتاحٍ للسمع) إلى أن حُبِسَ مع صبيِّه – تواريخَ رسالاتٍ سماويّةٍ شهِدَت انحرافاتٍ متزايدةً من التلاميذ والأجيال اللاحقة على الأنبياء حتى آلَ الأمرُ إلى فسادٍ وعماءٍ في النهاية!
يبدو لي من خلال هذا الغوص في الحُلم والعرفان والنبوّة أنّ (عبد اللطيف) أراد أن يواجِهَنا بسِفرٍ شبه تاريخيٍّ لا يخلو من السِّحر، يؤرّخ للرسالات النبيلة كيف تبدأُ وكيفَ يفسدُها التلاميذُ وكيف تصطدمُ بمقتضياتِ الحياة ونوازع الطبيعة البشرية فتؤولُ إلى الفسادِ في النهاية. وهو سِفرٌ أُريدَ له أن يبدو كالأسفار المقدّسة، وربما لهذا لا نجد كثيرًا من الأسماء للشخصيات، فباستثناء جميلة والدكتور (وهو اسمُ ووظيفةٌ في ذات الوقت) ويوسف (الذي لا نعرفُ اسمه إلا قرب النهاية) ولاللي، لا نجد ذِكرًا لاسمٍ آخر، كأننا إزاءَ أمثالٍ مجرَّدةٍ تقفُ كإشاراتٍ إلى حكاياتٍ قابلةٍ للتكرار بآلاف الأسماء. هذا فضلاً عن الأحلام الكثيرة بالطبع، حتى لكأننا نطالعُ نصًّا كسِفر دانيال أو عاموس أو غيرهما من أسفار العهد القديم الحُبلى بالأحلام والنبوءات!
* خيط ما بعد الاستعمار:
يحدثنا صانع المفاتيح في مدونتِه عن مصانع السكّر التي أسسها (عبود باشا) سنة 1881 على مساحة هائلة من الأرض. وفي هذه المعلومة مغالطةٌ تاريخيةٌ ربما قصدَها المؤلّف، حيث إنّ الشركة تأسست تاريخيًّا في ذلك العام قبل ميلاد أحمد عبود باشا بثمانية أعوامٍ وعلى يد الأجانب، واشترى عبود معظم أسهُمها بعد أن وضعَت الحرب العالمية الثانيةُ أوزارَها وبعد أن أثرى هو ثراءً فاحشا، وسرعان ما أصبح رئيسًا لمجلس إدارتها حتى أُمِّمَت عام 1961. فلماذا أتصورُ أن المعلومةَ مغلوطةٌ قصدا؟!
في نفس الفقرة من المدونة يقول عن ألفونسو الجدّ الأكبر للاللّي: "وتمتدُّ أصولُ عائلتِه للرومان الأوائل الذين احتلُّوا القُرى المجاورة سنة 40 قبل الميلاد، وتملكوا الأراضي في أماكن مختلفة، فكانوا دومًا سادةً ومُلاّكا."
فلننظر الآن إلى طبيعة الفساد الذي يمكننا اعتبار (لاللي) مسئولاً عنه في البلدة. سرقة القرنيّات من المجانين؟ بالتأكيد، هي ممارسةٌ تنظر إلى أفراد البشر باعتبارهم وسائلَ إلى غاياتٍ كبرى تحققها البشرية، وفي سبيل ذلك يمكن التضحيةُ ببعض الأفراد الضِّعاف غير المرغوب فيهم لتحسين إمكانات الجنس البشري ككُلّ. هي ما يسميه د.عبد الوهاب المسيري في (العلمانية الجزئية والشاملة) بالحَوسَلَة (أي التحويل إلى وسيلة) ويربطُها بالعلمانية الشاملة التي تُعقِّم كُلَّ منحىً من مناحي الحياةِ من رُوح الدِّين. وهو يربطها بالنازية والصهيونية كمثَلَين صارخَين، لكن تاريخَ الاستعمار الغربي بعامّةٍ لا يخلو من أمثلةٍ متفاوتة الفداحة لمِثلِ هذه الممارسات. لكنّ مسئولية (لاللي) الأكبر تتمثل في الانفجار الجنسيّ الذي يأخذ أكثرَ صُوَرِه فجاجةً في فندقِه، حيث لا يكتفي بتحويل نساء البلدة إلى سلعةٍ، لكنه كذلك يستضيف زواجَ المِثليِّين في مفاجأةٍ ثقيلة الوطء، حتى على صديقه الدكتور. هذا التشجيع على السُّعار الجنسيِّ يُحيلُنا إلى النموذج العربي الأوضح لأدب ما بعد الاستعمار، أعني رواية (موسم الهجرة إلى الشَّمال) للطيب صالح.
في تلك الرواية يجد البطل (مصطفى سعيد) نفسَه مدفوعًا إلى اقتراف المزيد من الخطايا الجنسية في عُقر دار الحضارة المستعمِرة، كأنّ هذا السُّعار هو الوجه المُظلم الذي لابُدّ منه لكل فعل مُثاقفةٍ مع الآخَر المتفوق حضاريًّا، وهو يصف ما فعله الاستعمار الأوربي ببلاد العرب بأنه "مرضٌ لا بُرءَ منه" ويعني بذلك الانفجار الجنسي الذي لا يعرف حدودا.
في (صانع المفاتيح) لا نجد إشاراتٍ صريحةً متكررةً إلى الاستعمار والتفوق الغربي، لكنّ ربط (لاللي) بأسلافه المحتلِّين الرُّومان يجعل القراءة المبنية على خيط (ما بعد الاستعمار) وجيهةً ومحتمَلَة. وربما لهذا عمد الكاتب إلى نسبة إنشاء مصانع السكر إلى اسمٍ مصريٍّ، لعلّ هذا يرسّخ فكرة أنّ المستعمِر لم يُدخِل إلينا إلا شرًّا محضًا، ولعلّ اقتران ممارسة البغاء المُرَخَّص بفترة الاحتلال البريطاني يؤازر هذه الرؤية.
كما يؤازرُ هذه الرؤيةَ كذلك تجريدُ شخصية (لاللي) من كل جوانب الخير، فهو يكاد يكونُ نموذجًا لا إنسانيًّا، شَرًّا محضًا كمَن يمثلُهم في الرواية، بل إننا نجد الدكتور يصِفُه بأنه شيطان العصور الحديثة بالفعل. وهو ما يُحيلُني بشكلٍ شخصيٍّ إلى فِلم (العيون المغلقة على اتساعِها Eyes Wide Shut) لستانلي كيوبرِك، حيثُ نجد معادلاً سينمائيًّا لهذا الانفجار الجنسي في فندق الأثرياء، يتمثل في القُدّاس الأسود الشيطاني الذي يجمع صفوة المجتمع في أقنعتهم التنكُّريّة، ويحضُره البطل (توم كروز) بالصُّدفة لتنفتح عيناه على وجهٍ شيطانيٍّ أسود لمجتمعِه لم يكن يعرف عنه شيئًا، وكما في (صانع المفاتيح) يختلط الحُلم باليقظة قُرب نهاية الفِلم فلا نكاد نتبيّن أين ينتهي أحدُهما ليبدأ الآخَر. والخلاصة أنّ الشيطان يبدو أنه يقود قاطرة الحضارة في كُلٍّ من الفِلم ورواية (عبد اللطيف)، وإن كان يكتسبُ في الروايةِ صبغةً استعماريّةً خفيفة.
انتهاءً، نحن أمام نصٍّ روائيٍّ بالغ الثراء، حمّال أوجُه، عرف كاتبُه كيف يوظّف قناعاتِه الجَماليّة ليُبدع سردًا متجاوزًا للحظة كتابتِه صالحًا لاستعادتِه في كلّ وقت. وتبقى كلُّ قراءةٍ فيه احتمالاً، يعرضُ وجهًا من أوجُه العمل، ولا يدّعي الإحاطةَ بإمكاناتِه.