توالت التغييرات في أكثر المناصب حساسية
بجهاز
المخابرات الجزائري بقرارات صادرة عن الرئاسة، بالتنسيق مع قيادة أركان الجيش
التي تتولّى التنفيذ، ما أعطى أملا في إنهاء الصدام بين إرادتي التهدئة والتصعيد
في أعلى هرم النظام.
وبشكل مفاجئ، أطيح برجل المخابرات
القوي، العميد واسيني بوعزة، الذي شغل منصب مدير الأمن الداخلي منذ نيسان/ أبريل
2019، أي أياما بعد استقالة الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة، وتحكم رئيس أركان
الجيش الراحل الفريق أحمد قايد صالح في القرارات الكبرى بالبلاد.
وبطريقة غير معهودة، جاءت تنحية
العميد واسيني بوعزة على مرحلتين، فقد أُعلن في 8 نيسان/ أبريل الماضي عن تعيين
العميد عبد الغني راشدي نائبا له، وبصلاحيات واسعة، بشكل أظهر رغبة السلطات العليا
في التخلص منه، ثم تقرر بعد أربعة أيام تنحيته وترقية نائبه إلى مدير عام للأمن
الداخلي بالنيابة.
وتطورت الأحداث بعد ذلك إلى حدّ نشر
صحيفة الوطن الناطقة بالفرنسية خبر إيداع العميد واسيني بوعزة السجن، بتهم تتعلق
بتسييره لجهاز الأمن الداخلي، ومعالجته ملفات خارج القانون. وقالت نقلا عن مصادر
عسكرية، إن الرئيس عبد المجيد
تبون لم يكن يرغب في بقاء هذا المسؤول الأمني الذي
كان على خلاف شديد معه.
ويرجع أصل التوتر بين الرجلين إلى
فترة الحملة الانتخابية لرئاسيات كانون الثاني/ ديسمبر الأخيرة، حيث تعرض المرشح
وقتها عبد المجيد تبون إلى حملة إعلامية قوية من وسائل إعلام ترتبط بأجهزة داخل
السلطة حاولت تشويه صورته، من خلال تناول علاقاته مع بعض رجال الأعمال، وزيارته عددا من الدول في الفترة التي كان فيها وزيرا أول.
وأشيع في ذلك الوقت، أن من يقف وراء
هذه الحملة هو رجل المخابرات القوي، واسيني بوعزة، الذي اتُهم عبر ما يحوزه من
شبكة قوية يضمنها له المنصب، بالعمل لصالح المرشح الآخر، عز الدين ميهوبي، الذي حظي -خلافا لكل التوقعات- بدعم معظم أحزاب السلطة المعروفة، وكان يروج في المنعرج
الأخير للرئاسيات، على أنه أقرب المرشحين للفوز.
غير أن بوعزة لم يغادر منصبه بعد صعود
تبون للرئاسة، عكس ما كان متوقعا، وترك ذلك علامات استفهام حول طبيعة التوازنات
الداخلية في منظومة الحكم، وتأثيرها على ممارسة صاحب منصب الرئيس لصلاحياته.
وما زاد في حدّة التساؤل هو ذلك
التناقض بين خطاب الرئيس تبون حول ضرورة الذهاب للتهدئة، وتغليب جوّ الحوار
والانفتاح على الحراك الشعبي، وما كان يقابله في الميدان من استمرار للاعتقالات في
صفوف النشطاء، وتضييق على حرية التعبير، واستغلال لجهاز العدالة لأغراض سياسية، وفق
ما تحدّث به العديد من الحقوقيين.
"أمل في تجاوز المرحلة"
لكن اليوم بعد رحيل بوعزة من منصبه،
هل يعني ذلك أن الممارسات التي كانت محلّ إدانة من النشطاء ستختفي؟ وهل الإطاحة به
ستجعل تبون أكثر تحررا في الالتزام بوعوده التي أطلقها في الحملة الانتخابية؟
يقول عبد الغني بادي، المحامي والناشط
الحقوقي المدافع عن سجناء الحراك، إن الكثير من ملفات الرأي كان الأمن الداخلي زمن
واسيني بوعزة وراء التحقيق فيها، على غرار قضية
القائد الثوري لخضر بورقعة، والسياسي كريم طابو، والناشط إبراهيم دواجي، كما أن
الصحفي خالد درارني تعرض لعدة مرات للاستجواب.
وأوضح بادي في تصريح لـ"عربي21" أن كل هذه القضايا
انتهت بإيداع أصحابها الحبس المؤقت، وهو ما يشير إلى "دعم فرضية أن يكون
العميد واسيني بوعزة قد امتلك نفوذا على جهات داخل القضاء، وليس كل القضاء".
أما بخصوص إمكانية انفراج الأوضاع بعد هذا التغيير، فيعتقد
بادي أنه من المبكر إعطاء تقييم واقعي، إلا أن الملاحظ أن "الاعتقالات بعد
بوعزة مستمرة، وهذا قد يعطي تخوفا بأن الأمور قد تسير نحو التصعيد".
ويستدرك بادي قائلا: "إنها فرصة أمام تبون والقيادة
الجديدة للأجهزة الأمنية لتجاوز مرحلة تجاوز القانون، واستعادة نوع من الثقة للبحث
عن حلول سياسية جادة؛ لأن التصعيد والاعتقالات، وتجاوز القانون، لن يؤدي إلا إلى
مزيد من توسيع الهوة، علما أن البوليس السياسي كان دائما أحد معيقات التحول الحقيقي".
ولم يمرّ وقت طويل على تغيير رأس الأمن الداخلي، حتى ظهر خبر
رسمي آخر بإقالة العقيد كمال الدين رميلي، المدير العام للوثائق والأمن الخارجي، وهو
الجهاز الذي يمثل الشق الثاني من المخابرات الجزائرية، واستبدال اللواء محمد
بوزيت به، والذي سبق له شغل المنصب، ويعد من أبرز خبراء المؤسسة العسكرية في القضايا
الخارجية.
وفي رأي زين العابدين غبولي، الباحث في معهد واشنطن لسياسة
الشرق الأدنى، فإن تعيين مدير الأمن الخارجي لن يغيّر شيئا في الدّور غير الموجود
أساسا للجزائر إقليميا.
وأوضح غبولي في تصريح لـ"عربي 21"، أن سبب ذلك بسيط، وهو أن لعب دور إقليمي يحتاج إما قوّة عسكرية قابلة للاستعمال الخارجي، أو قوة
دبلوماسية فعالة، أو قوّة اقتصادية يمكنها تحصيل النفوذ الجيوسياسي، وهي كلها عوامل
لا تمتلكها الجزائر.
وحول رأيه في هذه التغييرات عموما، قال غبولي إنها تتعلّق "بحرب
باردة داخل أقطاب النّظام أكثر من تعلّقها برغبة تغيير"، إذ ثمة محاولة "للتضحية بجناح معيّن داخل النّظام، وكل
هذه التعيينات تخدم هذا الهدف".
"تغييرات تساعد تبون"
لكن رابح لونيسي، أستاذ العلوم السياسية بجامعة وهران، له رأي
مخالف في هذه المسألة، إذ يعتقد بأن تبون بالتحالف مع رئيس أركان الجيش قد حسم
لصالحه معركة السيطرة على الأجهزة الحساسة في الدولة.
وأوضح لونيسي، في حديثه مع "عربي21"، أن هذه التعيينات
الجديدة هي بمثابة تصحيح لوضع موروث من زمن الرئيس السابق في عهدته الأخيرة، عندما
كان يغلب على التعيينات في أجهزة المخابرات منطق تصفية الحسابات، وهو ما جعل أغلب
المعينين لا ينتمون في الأصل إلى المؤسسة، ما أدّى إلى حالة من الاستقرار
داخلها.
وأضاف لونيسي أن هذه التعيينات "ستساعد تبون في تطبيق
سياسته، وتدخل في إطار قلب موازين القوى لصالحه، وتنحية كل معرقل لسياساته، إذ لوحظ
أن كثيرا من القرارات التي نفذت في الفترة الأخيرة لا تعكس إرادته، مثل قضية
معتقلي الحراك".
وتابع المتحدث: "أعتقد أن تبون -مدعوما من قيادة الأركان- يريد فعلا إدخال إصلاحات جوهرية على آليات النظام، ليس فقط لإنقاذ الدولة، بل أيضا
لاكتساب شرعية شعبيه له وللنظام، وهو ما يتطلب إحداث تغييرات، والإتيان بأشخاص
يساعدونه لا يعرقلونه، كما أعتقد أن الجيش ذاته بتركيبته الشبابية يريد الابتعاد
عن التدخل في الشأن السياسي إلا في القضايا الاستراتيجية الكبرى".