كشف فيروس كورونا عن موضع
قضية السنن ومداخلها في الوعي والسعي في بعض تفكير المسلمين. ومن المهم في هذا
المقام الذي يتعلق بعناصر التفكير بما نحن فيه ورؤى المستقبل المترتبة عليه؛ أن
نفكر كيف نواجه الأزمات والمخاطر بتفكير رشيد ووعي أصيل وسعي سديد.. هل التحديات
تعني القضايا الثائرة الحالة التي تتطلب موقفا أو تعاملا؟ أما أن التحدي أوسع
وأكثر امتدادا من الحدث العابر أو المؤقت أو الآني؟
وواقع الأمر أن عملية التمييز بين الثابت
والمتغير في التحديات، والمستمر والآني، والآني في المستمر، والمستمر في الآني، هي
عمليات مهمة، فإن القضايا التي تمثل تحديات أوانها هي من الحوادث الكاشفة عن تلك
التحديات وطرائق مواجهتها، والتي تشير إلى التحديات كبحث عن العوامل في بناء
التحديات، وعدم الوقوف عند الظواهر والأعراض.
ومن هنا يجب ألا نغفل هذه الحقائق المؤثرة على
النظر إلى طبيعة التحديات، النظر إلى أشكالها، النظر إلى أنماط سيرها ومسيرتها،
النظر إلى أوزانها، النظر إلى العناصر المضافة فيها وإليها، وهو أمر يؤثر ليس فقط
في الإدراك والتصور، بل في طرائق التعامل وقدرات المواجهة. والتحديات كما هي
الأزمات والابتلاءات؛ تشير بذلك إلى عناصر التنبه الدائم والقادر على التعامل بوعي
وسعي متصل. والتحديات تتطلب بدورها التفكير استشرافا بالنسبة لها جميعا ومستقبلا،
ذلك أن هذا يعبر بدوره عن ضرورة النظر إلى مستقبل التحديات وتطورها طبيعة ومسارا،
وما يفيد ذلك من آثار على مناهج التعامل والتناول للتحديات فضلا عن مناهج النظر.
التحدي، الأزمة، الخطر، والمترتب عليها من
ضرر، وكذا تلمس الفرصة في الخطر، والمنحة في المحنة؛ وفق هذا الاعتبار حالة ووضع
وموقف وعلاقة واختبار وابتلاء ووعى وإدراك واستجابة وسعي على كل المستويات وفي كل
الظروف والأحوال. وهو بهذا الاعتبار إن كان يرتبط بقضايا أو إشكالات أو أزمات أو
بمخاطر، فإن جوهر التحدي ليس في التعرض لمثل هذه الحالات، ولكنه يقع في قدرة البشر
على إدراكها، والوعي بها، والتعرف على سنة التعامل معها، وإمكانية تحويل السلبي
منها إلى طاقة إيجابية، وتعظيم الإيجابي منها. وكذلك يتمثل ذلك في أنماط
الاستجابات النابعة لا التابعة، الفاعلة الواعية. نحن أمام عدة استجابات يجب رصدها
في سياق الاستجابات العليلة والكليلة والسلبية لما يمكن تسميته بالتحديات أو ما هو
في حكمها. هذه الاستجابات تتمثل في خمسة أشكال:
الأول: الاستجابة البلاغية والانفعالية، وهي
حالة تخرج عن حد المعالجة العلمية والبحثية إلى خطاب مكرور يتسم بالإنشائية، وفائض
الكلام، من دون البحث في الأسباب والعوامل الظاهرة والكامنة خلف الظواهر المتعلقة
بالتحديات والقدرة على الوعي بها والاستجابة إليها والتعامل معها، وتحديد التحديات
تأثيرا وأوزانا.
الثاني: الاستجابة الإغفالية، وهي التي تغفل
عناصر مهمة في التحديات، مثل إغفال السياسي وإغفال الداخلي في السياسي، وإغفال كل
ما يتعلق بالسلطة في الداخلي.. متوالية من الإغفال والاختزال، لا تضع الأمور في
مقامها وتحدد خريطة العلاقات بين التحديات المختلفة ووزن السياسي منها، ومسؤولية
الداخلي فيها، والسلطة ذاتها تكوينا وسياسات باعتبارها تحديا ضمن العلاقات السلبية
في العلاقة السياسية الداخلية السوية بأطرافها ومكوناتها، بحيث تحل محلها سنن
الاستبداد والعلاقة السياسية الفرعونية.
الثالث: الاستجابة الافتعالية، وهي التي تحرك
عناصر إدراك للتحدي يحرك عناصر تهويل في الرؤية بما يورث استجابة تعبر عن
الاستسلام لواقع التحديات السلبى وتكريسه وإقراره سكوتا أو يأسا، وهي استجابة
مانعة من بناء الرؤية الحضارية والاستراتيجية القادرة على تأسيس الوعي الإدراكي
لها، وفاعلية السعي في التعامل معها. الاستجابة الافتعالية ربما تساعد على إقرار
عناصر الأمر الواقع والوقوف عن الاستجابة والمواجهة، وهي أمور غالبا ما تنعكس على
خطاب التحديات في هذا المقام، والتقليل من قيمة وقدرات المواجهة وفاعلية المجابهة
واستثمار هذه الطاقات ضمن فاعلية الاستجابات والتخطيط لها استراتيجيا وحضاريا.
أما الشكل الرابع من الاستجابة فيتعلق بالمعنى
التآمري في تفسير ليس فقط التاريخ، وإنما امتداد التاريخ في المستقبل بما يشكل
حالة تتحكم بالعقل العاجز والإرادة المعوق في نمط هذه الاستجابة وتداعياتها
والهروب إليها، لإبراء الذمة وإعفاء الذات من المسؤولية.
أما الشكل الخامس والأخير؛ فيتمثل في
الاستجابة المتوهمة في إطار منهج تفكير يتعلق بالأماني لا بالعمل الحقيقي على
الأرض، وهو ما أشرنا إليه في المقال السابق ضمن نمط الاستجابات السلبية.
الرؤية للمستقبل، وموقع السنن منها، وواقع
التحديات والأزمات الحادثة والمتكررة، ووهن الاستجابات وقصورها وهوانها، كل ذلك من
أهم الدواعي خاصة في الحالة الكورونية الكونية التي تلفتنا إلى السنن والوعي بها
والسعي من خلالها بحيث تحدد عناصر الفاعلية الحضارية، وبما تضفي على الأفعال الرؤى
والحركة والتصورات قيمة. وتعني أن الإنسان يحرك طاقاته ضمن حقائق ومساحات السببية
خروجا من أوهام العبثية أو المصادفة ومساحات الخرافة الأسطورية.
السنن تحرك الأفعال ضمن قيم تشكل جوهر الفعل،
أو قيمة مضافة إليه، تتصل بذلك مشكلة الفاعلية في عالم المسلمين بما يؤكده مالك بن
نبي أن "العالم الإسلامي لم يبلغ بعد درجة النشاط أو العمل الفني الذي يعد
وحده كفيلا بتحديد مكانه في العالم الحديث الذي يحتل مبدأ "الفاعلية"
أول درجة في سلم القيم. وهذا المبدأ من أحرج الأمور بالنسبة لنا (وجهة العالم
الإسلامي)".
وفي عالم الأفكار؛ فإن الأفكار القاتلة،
الميتة، المميتة، المخذولة.. أسهمت مع الحالة الغافلة والأفهام القاصرة والمقصرة،
رغم المخاطر المتصاعدة في نقص الفاعلية عند أبناء الأمة.. الفاعلية والإقلاع
الحضاري ونماذج التغيير السنني. كما أن نقصان الفاعلية في العمل الإسلامي ناتج عن
مواقفنا تجاه الأشياء، فنحن إما أن ننظر إليها على أنها سهلة وإما أنها مستحيلة،
وكلتا النظرتان تنقصان من الحركة والنشاط.
نحن نرى نقصان الفاعلية ناتج عن أسباب كثيرة
ومعقدة يتصل بعضها بالنفس البشرية، وبالمحيط الذي تربت فيه، وبالثقافة التي مع طول
الأمد تمكنت منها. الفاعلية قوة في النفس تستوجب الحرص على النفع وترك العجز؛ وعلى
رأسها الهمة والاهتمام. ومن المهم الإشارة إلى أن عدم تقديم الجهد المطلوب، وعدم
الاستفادة من الوسائل المتاحة، وافتقاد منطق العمل والحركة والجدية والانضباط، فهو
إن فكّر لا يجسد فكرته في عمل صائب وإذا عمِل لا يقدم الجهد المطلوب؛ لأسباب عديدة
منها التأويل الخرافي للمستقبل، والتفريط في أصول وقواعد المنهج السنني، والتنحي
عن الفعل وثقافة الانتظار، والاستقالة الحضارية وغياب الدافعية، وتحويل التنبؤات
إلى أمنيات، وتبديل الفعل الحضاري الناهض بأحلام النائمين وخيالات المتوهمين،
وشيوع عقلية اللامبالاة والانتظار والتعطل والعطالة الحضارية.
ماذا يعني إذا تغيير كورنا؟ وماذا يعني تغيير
البشر؟ كورنا قد يهدم ولكن البناء والمواجهة البناءة هي في مقدور الإنسان وفق
قوانين السنن الفاعلة القاضية، وتصفّح واستشراف آفاق المستقبل الواعدة والواعية
بالطاقة العمرانية الإيجابية الفاعلة؛ "هو أنشأكم من الأرض واستعمركم
فيها"، وقوانين التغيير الفاعلة العادلة "إن الله لا يغير ما بقوم حتى
يغيروا ما بأنفسهم".
إن كورونا قد يفتح باب التغيير أو ينبه إليه،
وقد يشير إلى تشوه في عالم القيم واختلال في موازين علاقات الإنسان والكون ومسالك
العمران، ولكن استراتيجية التغيير وعيا وسعيا، بناء ودعما، فاعلية وحشدا، هي من
وعي وسعي الإنسان فاعلا وعدلا، لا عالة وكَلاّ.