الأوبئة
مثلها مثل الحروب هي أزمنة تعطل الدور العادية للمبادلات
والإنتاج. وهي المياه الآسنة المناسبة لانتعاش وتوسع أحد أقدم الظواهر المرتبطة
بالعملية التجارية، أي
الاحتكار. الظاهرة قديمة لكن التعبير الأكثر شيوعا هو القادم
من الأصل الإغريقي "monopoly"، والذي يعني
ببساطة "الاستفراد بالبيع". ضرب المنافسة النزيهة وفرض لاعب واحد أو
لاعبين متواطئين وإبعاد البقية من القدرة على اللعب؛ هو المعنى الأصلي والدائم
للاحتكار.
كورونا يمثل
الآن المناخ المتعفن المناسب للاحتكار، ويحدث هذا في تونس وغيرها. مثلا، أعلنت
وزارة
التجارة التونسية يوم الجمعة (3 نيسان/ أبريل) عن نتائج حملات المراقبة
الاقتصادية التي امتدّت من 1 إلى 31 آذار/ مارس 2020، أي طوال فترة انتشار كورونا
وانطلاق الحجر الصحي. وحسب بيان الوزارة، كان عدد الزيارات الرقابية 25 ألف عملية
رقابية، تمّ خلالها تسجيل 2620 مخالفة في التجاوزات السعرية والاحتكارية والتلاعب
بالمواد المدعمة والإخلال بشفافية ونزاهة المعاملات. وتضمنت تفاصيل المحجوزات:
1490 طنا من المواد الغذائية الحساسة (الفارينة والسميد والعجين الغذائي، السكر،
مواد غذائية عامة)، و37 ألف لتر من الحليب، و20 ألف لتر زيت نباتي مدعم، و318 ألف
قطعة من مواد الصحة الجسدية والوقاية شبه الطبية (كمامات، قفازات، معقمات).
أمّا
بخصوص الإجراءات الردعية فقد أعلن البيان أنه تمّ إقرار 83 قرار منع من التزود
بالمواد المدعمة وغلق محلات (الاحتكار أو التلاعب)، وإيقاف 22 محتكرا وصدور حكمين قضائيين.
وبسبب الزيادة الواضحة في نسق الاحتكار، أعلن رئيس الحكومة الياس الفخفاخ عزمه على
إصدار مرسوم يضاعف العقوبات ضد المحتكرين لمزيد ردعهم، في حين وصفهم الرئيس قيس
سعيد بـ"مجرمي الحرب".
لا يمكن
الفصل بين نشأة التجارة في مجتمعات الكفاف، أي عندما كان المشكل الاقتصادي الرئيسي
هو قلة الإنتاج وهو ليس حال فائض الإنتاج في المجتمعات الراسمالية، وبين الاحتكار.
في تلك المجتمعات كان الاستبداد السياسي مرتبطا عضويا باحتكار تقسام الثروة بين أعضاء
نخبة الحكم. في الإمبراطورية الرومانية مثلا تمت في عهد تايبيريوس (القرن الأول
ميلادي) مأسسة احتكار نخبة الدولة (خاصة أعضاء مجلس الشيوخ) لمبادلات أهم السلع،
خاصة الملح والرخام. في العصور الوسطى تم منح حقوق احتكارية للشحن لشركات عادة
تتضمن في مؤسسيها أرستقراطيين مرتبطين بالملوك.
في
السياق العربي والتونسي مثلا كانت الدولة تحتكر تجارة بعض المواد، لكن يمنحون
"لزمات" (حقوق احتكارية) في ميادين معينة لعائلات محددة قريبة من الحكم،
وهكذا كانت عائلة "السبسي" تتحوذ حصرا على حق ترويج نبتة دخان السجائر.
وفي حالات معينة يضطر الحاكم إلى التخلي عن احتكار الدولة تحت ضغط لوبي التجار
والعائلات القريبة من الحكم، لكي يمارس هؤلاء نفوذا اكبر في المبادلات ومن ثم
تحقيق أرباح أكبر. حصل هذا مثلا في تجارة الشاي والتكروري (نبتة مخدرة) والسكر،
خاصة بين الحربين في القرن العشرين تحت الاحتلال الفرنسي.
يقول
المكني في مقال حول الموضوع (تم نشره سنة 2003): "كانت عملية الاستهلاك الهامة في ترابط وثيق مع أهمية
تتجير الشاي، وكذلك السكر، فهذه المنتوجات المدارية كانت بيد الشركات الاستعمارية
الاحتكارية التي جنت من ورائها أرباحا طائلة. كانت كل كميات الشاي الموجودة في
السواق مستوردة من الخارج عبر الخواص، ويسيطر على تتجير المادة تجار سوق الغرانة
من اليهود والجرابة".
وكانت العديد من القضايا في المحاكم في
تونس، في منتصف القرن التاسع عشر مثلا، تتعلق باحتكار التجار للسلع والتأثير على أسعارها
واضطهاد التجار والوسطاء (الكياله) للفلاحين (المنتجين) في تحديد السعر، حيث
يتضامنون لفرض أسعار منخفضة للشراء وترفيع الأسعار في البيع. وكانت الحلقة الأضعف أجهزة
رقابة الدولة، خاصة "أمين المعاش" الذي كان عاجزا أمام سطوتهم، خصوصا
بسبب ارتباطهم بعائلات الحكم. ويزيد ذلك خاصة في ظروف المجاعات والحروب (انظر مثلا
كتاب إبراهيم بلقاسم "الاقتصاد والمجتمع في الايالة التونسية من 1861 الى
1864 من خلال محاضر محاكم الجنايات والأحكام العرفية").
احتكار الدولة للتجارة الخارجية كان أحد
رافعات التجارة الراسمالية الدولية. شركات مثل "شركة شرق الهند"
البريطانية، والتي احتكرت التجارة مع شبه القارة الهندية والصين وبقية آسيا في
القرنين الثامين عشر والتاسع عشر، رغم أنها بدأت كشركات غير تابعة للدولة، فإن الدولة
قامت بحمايتها بل وخاضت من أجلها الحروب، مثل "حرب الأفيون".
في مقابل استضعاف الدولة وخاصة استضعاف
دورها المفترض في حماية الضعفاء لمصلحة نخبة الحكم، مارست دول شمولية انتهاكات
جسيمة ضد التجار بداعي مواجهة الاحتكار، وأصبحت تهمة "الاحتكار" في
الاتحاد السوفييتي خلال الثلاثينيات زمن حكم ستالين؛ التهمة الأكثر رواجا
واستسهالا لتوريط أي طرف معارض أو مشكوك في ولائه. ويتم استعمال العقوبات المشددة
التي تصل حتى الإعدام في عدد من الأنظمة الشمولية، ليس لضرب الاحتكار بقدر ما يتم
ذلك لضمان احتكار بيروقراطية الحكم وأصحاب الامتيازات دون غيرهم لمسالك التوزيع
والمبادلات.
الدولة ذات المضمون الاجتماعي أو
"دولة الرعاية" التي نشأت إثر الحرب العالمية الثانية، هي المعنية أساسا
بتعديل العلاقة بين الرأسمالية والتجارة ونهم المحتكرين. فقط سطوتها الردعية دفاعا
عن ضعاف
المستهلكين هي القادرة على فرض موازين قوى معقولة، وهذا الدور يصبح ملحا أكثر
بكثير في ظروف الأوبئة والحروب.