هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
أفتح التليفزيونات العربية
على أي قناة لأستمع إلى أي برنامج حواري حول أي موضوع في السياسة العربية، فلا
أخفيكم عمق الصدمة التي تصيبني حين يحسم أحد المتكلمين القضية مع محاوره بعبارة:
"أنت عميل للمخابرات المركزية الأمريكية أو إسرائيل أو أي تهمة من هذا
العيار". وينتهي الحوار ليبدأ الخوار "من الخور"، وينتهي السلام
ليبدأ الخصام، وتنتهي الكلمات لتبدأ اللكمات..
غريب أمرنا نحن العرب، لماذا
لا نتحاور بدون أن نتشاتم؟ وإني أحفظ في ذاكرتي وفي مذكراتي بآلاف من هذه الأخلاق
المنحطة التي تقذف بالعمالة للمخابرات الأمريكية أو غيرها كل من لا يروق للمحاور
المتأدلج "أي المشبع بالأيديولوجية" أو من يستعمل حماسه عوض عقله
لمقاربة ملف من الملفات العربية وبشكل مختلف. والرمي بالعمالة للمخابرات أصبح
اليوم من نصيب كل عربي إصلاحي أو ديمقراطي أو تطوري "من سنة التطور الطبيعي
للمجتمعات" لأن الإدارة الأمريكية هي التي تنادي بالإصلاحات الديمقراطية في
الظاهر و يعلم الله ما تخفي النوايا! ومادامت هي التي تدعو للديمقراطية فاللعنة
على الديمقراطية والذين خلفوا الديمقراطية! ا
إنه بكل بساطة منطق مقلوب
وعقل مسلوب وأنا سأروي بعض النوادر التي عايشتها منذ بعض العقود لأبرهن لكم على أن
الداء قديم والخطب عظيم. حين كنت يافعا في مطلع الشباب وانتقلت من مدينتي الصغيرة
القيروان إلى تونس العاصمة بدأت أعمل صحفيا صغيرا في صحيفة العمل لسان الحزب
الدستوري وفي أوقات الراحة أجلس في مقهى "بناليكس" مع شباب الأدب
والصحافة الطيبين من جيلي نتطارح في ذلك الزمن قضية حرب الفيتنام الجائرة وانحياز
بورقيبة لأمريكا ضد إرادة الجماهير وقضية المثقفين المغضوب عليهم في الاتحاد
السوفييتي أمثال الكسندر سوليجنتسين وساخاروف وحتى شارانسكي الذي أصبح من بعد
وزيرا ليكوديا في حكومة شارون!
وذات يوم من أيام ذلك العهد
اتصل بي السيد أحمد قطب وهو أمريكي الجنسية وفلسطيني الأصل ومدير للمركز الثقافي
الأمريكي بتونس أتاح لنا مطالعة أروع الكتب الأمريكية لفولكنر وارثر ميللر وتنيسي
وليامز وارنست همنجواي وريتشارد ورايت مع مشاهدة أشهر الأفلام السينمائية
الأمريكية بدون دفع تذكرة سينما لأننا بكل بساطة لا نملك إلا ما يسد الرمق وأعترف
بفضل هذا الموظف الكريم وبفضل ذلك المركز في وضع أيدينا نحن الشباب على درر الفكر
الأمريكي والثقافة الأمريكية التي كانت كثيرا ما تأخذ مواقف مناهضة للسياسات
الأمريكية!
وذات يوم عرض علي السيد أحمد
قطب أن أجري لقاء إذاعيا مع فضيلة الشيخ كمال التارزي مدير الشؤون الدينية
بالوزارة الأولى في ذلك التاريخ لإذاعة صوت أمريكا بالعربية حول مناسك الحج وعدد
التوانسة الحجيج وهي حقائق منشورة على كل الصحف وأذاعت الإذاعة لقائي مع الشيخ ضمن
برنامج مطول شمل كل البلدان العربية من المحيط إلى الخليج وتقاضيت من الإذاعة مبلغ
5 دنانير تونسية "ما يعادل بالضبط 5 دولارات لا غير" أنفقتها على شراء
جزمة جديدة بعد أن بليت الجزمة الوحيدة التي أحفظ فيها رجلي وفي الغد قصدت المقهى
لمؤانسة الخلان من أترابي كالعادة فما راعني إلا والوجوه متجهمة وبعضهم قام لينصرف
والبعض الآخر أبى أن يصافحني فظننت بأن الأمر دعابة من نوع الكاميرا الخفية.
واستجرت بأحد الأوفياء منهم
استطلع سر هذا الجفاء، فأسر لي الصديق بما لم أتوقعه أبدا قائلا لي: يبدو يا أحمد
أن المعلومات لدى الجماعة تفيد بأنك أصبحت عونا من أعوان (السي آي إيه!) قلت: وكيف
وأنا لا أعلم بانتدابي في هذه المركزية؟ فقال لي: لقد سمعك فلان وفلان في إذاعة
صوت أمريكا تتحدث عن موسم الحج! أليس من العمالة أن تشارك في دعم الإمبريالية
الأمريكية والمخططات المعادية لشعوب العالم الثالث وضرب التقدمية العربية!".
ولا أخفيكم بعد عقود من
الزمن أن تلك كانت شعارات السبعينيات، لأن الصديق الساذج كان في غاية الجدية وهو
يسوق لي هذه التهم التي لم أفقه معانيها وهي ذاتها التي ساقت مئات المثقفين العرب
إلى الإعدامات والسجون والمنافي سامح الله الجميع وغفر لهم ولنا..
وأعترف لدى القراء الكرام
اليوم بأنني لاقيت أقسى الشدائد في إقناع الزملاء بأني ورب الكعبة لا أعرف من
المخابرات إلا الاسم لا أفقه حتى ماذا تصنع المخابرات لا في أمريكا ولا في سواها
إلى يوم الناس هذا وأنا أذكر هذه النوادر للشباب العربي الصاعد حتى لا تغرنه
الشعارات الزائفة المرفوعة ضد هذا أو ذاك من السلطة أو المعارضة لأن التهم الجاهزة
والمظالم الجائرة تحولت إلى رياضة العرب القومية مثل الكريكت في بريطانيا وكرة
القدم في الأرجنتين!.
(الشرق)