هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
وأخيرا صدر عن محكمة العدل الدولية الأسبوع الماضي أمر لحكومة ميانمار (بورما) باتخاذ إجراءات عاجلة لحماية سكانها الروهينغيا المسلمين من أعمال العنف. جاء ذلك بعد النظر في قضية رفعتها حكومة جامبيا واتهمت فيها حكومة ميانمار (بورما) بالإبادة الجماعية ضد مسلمي الروهينغيا. ووصفت غامبيا القرار بأنه انتصار للعدالة الدولية.
ماذا يعني ذلك؟ وهل سينهي ذلك الأمر معاناة المسلمين البورميين الذين عرفوا باسم: روهينغيا؟ من المؤكد أن القرار سيكون له انعكاسات ميدانية، ولكن عمق مشكلة هذه الأقلية الدينية المضطهدة يجعل من الصعب الاعتقاد بأن أوضاع ذلك البلد ستحقق أمنا حقيقيا لهم. فهناك جهتان أساسيتان تورطتا في الجرائم التي ارتكبت على مدى عقود. أولا: هناك الجنرالات الذين يحكمون البلاد فعلا ويوجهون سياساتها على الأرض، وهم الذين مارسوا من أعمال الإبادة ما وثقته التقارير الدولية العديدة. ثانيا: هناك كهنة الديانة البوذية الذين ساهموا عمليا في ما جرى، تارة بالتحريض الديني، وأخرى بالمشاركة في الاعتداءات على المدن والقرى، التي أحرق بعضها وهجر سكان البعض الآخر. يضاف إلى ذلك ظاهرة الإسلاموفوبيا التي تتواصل في الغرب، ولا يمكن فصلها عن التأليب المتواصل على المسلمين. فإذا كانت الهند التي توصف بأنها أكبر ديمقراطية في العالم، قد مارست التمييز الرسمي ضد المسلمين بقرار استثناء اللاجئين المسلمين من حق التجنس، فإن ذلك يكشف عمق المشكلة التي تواجه المسلمين في البلدان التي تحكمها أكثريات دينية متعصبة. يضاف إلى ذلك غياب الاهتمام السياسي من قبل حكومات الدول الإسلامية بهذه المشاكل الحياتية، وتراجع دور منظمة التعاون الإسلامي على المسرح السياسي الدولي، وانشغال ذوي النفوذ فيها بقضايا بلدانهم الخاصة.
وثمة حقائق ذات صلة يجدر استعراضها لتوضيح المشهد السياسي الذي حدثت فيه الجرائم المرتكبة ضد مسلمي الروهينغيا. أولها أن وجودهم في ميانمار (المعروفة سابقا باسم بورما) موغل في القدم، وليس طارئا. ويذكر «تسجيل حوادث البيت الزجاجي» أن الملك مون أعدم في العام 1050 ميلادية الطفلين الوحيدين للسيد بيات وي، وهو أول مسلم قطن بورما وفقا للوثائق البورمية نفسها. وتشير المصادر إلى أن سبب الإعدام ربما كان مرتبطا بانتماء العائلة للإسلام. وتواصل الاضطهاد الرسمي منذ ذلك الوقت. وفي القرن السابع عشر حدثت مجزرة كبيرة للمسلمين الهنود الذين كانوا يقطنون إقليم اراكان البورمي. وتواصل الاضطهاد طوال القرون الثلاثة اللاحقة. وفي القرن الماضي تصاعد هذا الاضطهاد خصوصا بعد الانقلاب في 1962 الذي أحكم قبضة العسكر على البلاد، وكان من نتائجه استبعاد المسلمين والمسيحيين من المناصب الرسمية العليا. وعندما أصدرت الحكومة في 1982 قوانين جديدة لتنظيم منح الجنسية، استثنت أي شخص لا يستطيع إثبات جذوره في البلاد إلى ما قبل العام 1823، الأمر الذي انعكس سلبا على الكثير من المسلمين. وعلى مدى السبعين عاما الأخيرة، قامت الحكومة بـ 13 حملة عسكرية ضد مسلمي الروهينغيا. وفي هذه العمليات طرد المسلمون من أرضهم وأحرقت مساجدهم وارتكبت جرائم سلب وحرق واغتصاب على نطاق واسع. وتواصل الاضطهاد المتواصل أمام مرأى العالم ومسمعه حتى أدى لتهجير أكثر من 700 ألف من المسلمين الروهينغيا إلى بنغلاديش، ولم يبق سوى 600 ألف منهم، وهم مهددون بالمصير نفسه. وفي السنوات الأربع الماضية تواصلت جرائم الإبادة بحق مسلمي الروهينغيا بولاية أراكان، أدت لتهجير أكثر من 300 ألف منهم من أصل أكثر من مليون شخص، هم إجمالي أبناء هذه الأقلية المستضعفة والفقيرة. واتخذت السلطات الحكومية من هجمات شنها «جيش إنقاذ الروهينغيا» حديث النشأة آنذاك ذريعة للتنكيل بأبناء هذه الأقلية المحرومة منذ استقلال البلاد عام 1947 من أبرز مقومات المواطنة والحقوق مقارنة بالغالبية البوذية.
وقد هزت الجرائم التي ارتكبها الجيش البورمي ضمير العالم يومها، فظهرت محاولة استئصال الروهينغيا الأخيرة على يد الجيش، وكأنها رد على تقرير الأمين العام السابق للأمم المتحدة كوفي أنان الذي صدر في آب/اغسطس 2017 والذي أشار فيه إلى «حالة عدم احترام حقوق الإنسان بولاية أراكان، واستمرار تهميش المسلمين سياسيا واقتصاديا». وعبر الأمين العام الحالي أنطونيو غوتيريش عن دعمه لأقوال سلفه. ولكن الأمر تفاقم حتى بلغ حد الإبادة. وبرغم إصرار بعض سياسيي ذلك البلد، خصوصا الرئيسة أونغ سان سو تشي، على التقليل من وحشية تلك الأعمال، إلا أن هناك ما يشبه الإجماع الدولي على اعتبارها «جرائم إبادة» وليس جرائم حرب فحسب. وبدلا من الإذعان للتقرير وتوصياته، سعت الرئيسة أونغ سان سو تشي للتقليل من فداحة محتواه، وحاولت التقليل من شأن توصيات اللجنة الدولية برئاسة الأمين العام السابق للأمم المتحدة كوفي أنان، التي كانت قد كانت قد شكلت في أيلول/سبتمبر 2016 بالتنسيق مع مكتبها لتقديم توصيات حول سبل حل أزمة أراكان. وقامت اللجنة على مدى 12 شهرا بإجراء لقاءات مع برلمانيين وسياسيين محليين، إلى جانب زيارات ميدانية إلى أراكان المعروفة محليا باسم راخين. وخلصت لجنة أنان في تقريرها ـ المكون من 63 صفحة والمعنون «نحو مستقبل سلمي ومزهر لشعب راخين»ـ إلى أن جذور القضية تتركز في ثلاث أزمات: الأولى تنموية، وتتمثل في معدلات الفقر المرتفعة مقارنة بالمعدل الوطني. والثانية حقوقية، حيث يعيش بالولاية أكبر عدد من غير محددي الجنسية على مستوى العالم. والثالثة أمنية، وتتصل بالتمييز القائم في الولاية على أساس عرقي، وما تبعه من أحداث عنف عام 2012 وهجمات شنها «جيش إنقاذ الروهينغيا»، ثم تبعتها عمليات للجيش دفعت بالآلاف من المسلمين باتجاه بنغلاديش. وجاء في تقرير الأمم المتحدة العام الماضي أن «أونغ سان سو تشي لم تستعمل سلطتها كزعيمة للبلاد، ولا مكانتها للحد من الأحداث أو وقفها. كما أن السلطة المدنية ساهمت بتغاضيها عما كان يجري من اقتراف الجرائم الشنيعة التي وقعت».
يحظى الجيش في ميانمار بسلطات واسعة، وبموجب دستور 2008 يحافظ على استقلاله عن الرقابة المدنية، ولديه سلطة واسعة على الحكومة والأمن القومي، ويسيطر على وزارات الدفاع، والشؤون الداخلية، وشؤون الحدود. كما منح دستور 2008 ثلاثة مناصب وزارية للجيش، هي وزارات الدفاع والداخلية وشؤون الحدود، وهو ما يعني تسيير ملف الصراعات الإثنية والشؤون الأمنية كما هو الحال في إقليم أراكان. وكان هناك أمل بأن تمارس الرئيسة الحالية دورا إيجابيا لاحتواء الأزمة وكبح جماح الجيش والمتطرفين البوذيين، ولكن ذلك لم يحدث، بل تحولت إلى ناطقة باسم الجيش، تدافع عنه وتبرر الجرائم التي ترتكب يوميا بحق مسلمي الروهينغيا. في العام 1994 حصلت أونغ سان سو تشي على جائزة نوبل للسلام لنضالها ضد الطغمة العسكرية التي كانت تحكم بلادها، وفرضت عليها الإقامة الجبرية لمدة 12 عاما. لكنها تعرضت لاحقا لتنديد دولي واسع بسبب التطهير العرقي الذي تعرض له الروهينغيا على يد الجيش في ميانمار. ولم تكن ملزمة بالمثول شخصيا أمام المحكمة الدولية، كما أنها تجنبت الحديث إلى الصحافة الدولية عن القضية. فازت أونغ سان سو تشي زعيمة المعارضة في ميانمار بمقعدها في الانتخابات التاريخية التي جرى التصويت عليها في 8 تشرين الثاني/نوفمبر 2015، حيث حقق حزب «الرابطة الوطنية من أجل الديمقراطية» الذي تقوده فوزا ساحقا. لكن الآمال سرعان ما تبددت عندما اتضح أن الجيش هو الذي يمسك بزمام الأمور، وأن الرئيسة المنتخبة تتجه لتكون أداة طيعة بأيدي جنرالاته.
جاء قرار محكمة العدل الدولية صفعة للمؤسسة العسكرية البورمية، وضربة للرئيسة التي فقدت مصداقيتها أمام العالم، وسحبت عدة جوائز منحت لها ومنها جائزة منظمة العفو الدولية وجائزة حرية مدينة أوكسفورد. أيا كان الأمر، ثمة شعور متفاوت ومضطرب بعد صدور قرار محكمة العدل الدولية، فهناك ترحيب عام بصدور القرار لأنه أولا؛ تأكيد لظلامة مجموعة من البشر لم يرتكبوا جرما بل اضطهدوا بسبب معتقداتهم. ثانيا؛ أنه قد يساهم في تخفيف حملة الإبادة ضدهم من قبل حكام ميانمار. ثالثا؛ أنه بداية جيدة لموقف دولي ينصف الضحايا ويعترف بتعريضهم للإبادة. رابعا؛ أنه يمثل ضغطا على الدول الإسلامية للقيام بعمل جاد ومتواصل لحماية الأقليات الإسلامية في البلدان الأخرى. خامسا؛ أنه تجسيد آخر لما يمكن أن تختزنه النفس البشرية من مشاعر شريرة تجاه البشر الآخرين. سادسا؛ أن قرار المحكمة يؤكد قدرة المجتمع الدولي على القيام بدور ما إذا امتلك الأرادة، وانبرى للدفاع عن المظلومين في أي مكان. سابعا؛ أن القرار ليس ملزما إلا إذا تم تحويله إلى مجلس الأمن الدولي للمناقشة، وهناك خشية من استخدام حق النقض لحماية عسكر بورما. الأمر الإيجابي أن محكمة العدل الدولية تعمل كذراع للأمم المتحدة، ولا تتطلب تصديق الدول عليها، كما هو الحال مع محكمة الجنايات الدولية.
(القدس العربي اللندنية)