هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
بكل أريحية، وبثقة تامة، يتحدث الدكتور المفكر عبد الرزاق مقري، رئيس حركة "مجتمع السلم"، كبرى الحركات الإسلامية في الجزائر، والأمين العام لمنتدى كوالالمبور للفكر والحضارة، عن تجربة الحركة في المشاركة في الحكم، رافضا بالمطلق فكرة فشل الإسلاميين التي يروجها البعض، في تطوير آلية واضحة للحكم، أو عدم قدرتهم على امتلاك برامج سياسية أو اقتصادية، ورغم تأكيده على نضوج تجربة حركة مجتمع السلم، وامتلاكها أدوات الحكم والرقابة، إلا أن الحركة الإسلامية في عمومها لا يمكن برأيه محاكمتها قبل أن تتمكن من الحكم فعليا.
ويعد الدكتور مقّري، واحدا من أبرز المفكرين والساسة حاليا في الجزائر، فهو لا يترأس فقط كبرى الحركات الإسلامية (الإخوانية) بها، وإنما ترك بصمته الواضحة، في مجالات نشاطه الفكري والدعوي والسياسي، حيث كان وراء إخراج حركة "مجتمع السلم" من التحالف الحكومي بعد 15 سنة كاملة من المشاركة، فور انتخابه على رأس الحركة عام 2013، لينتهج نهجا معارضا بشكل كامل للنظام، على عكس سياسة المشاركة التي أقرها زعيم الحركة الراحل محفوظ نحناح، وخليفته فيما بعد الشيخ أبو جرة سلطاني، ورغم ما يثيره ظهور الدكتور مقري من مساجلات إعلامية في الجزائر بسبب مواقفه المثيرة للجدل دائما، إلا أن الجميع يشهد له بكفاءته الفكرية العالية، بدليل الكم الهائل من الأعمال والأدوار التي يضطع بها، بداية من إدارة مركز البصيرة للبحوث والاستشارات والخدمات التعلّمية، وإدارة تحرير دوريات فكرية واستراتيجية متخصصة: دراسات اقتصادية، دراسات استراتيجية، دراسات إسلامية، دراسات قانونية، دراسات اجتماعية، دراسات أدبية. وتعاونه كباحث مع عديد المراكز البحثية العربية، ويترأس فخريا أكاديمية جيل الترجيح للتأهيل القيادي بالحركة، فإنه دائم المشاركة في المؤتمرات والمنتديات الفكرية والسياسية عبر العالم، علاوة على مؤلفاته الضخمة والمتميزة من قبيل: "صدام الحضارات: محاولة للفهم"، "الحكم الصالح وآليات مكافحة الفساد"، "المشروع الإسلامي: هويته، أهدافه، أدواته، مصادر قوته"، "الإسلام والديمقراطية: نحو مواطنة فاعلة" ( تأليف جماعي)، "البيت الحمسي: مسارات التجديد الوظيفي في العمل الإسلامي".
وفي هذا الحوار الثري الذي تنفرد "عربي 21" بنشره مع الدكتور عبد الرزاق مقري، ملفات فكرية هائلة، وقضايا في غاية الحساسية، حول قدرة الإسلام كدين حضاري على استيعاب تراكم العبقرية والحكمة البشرية من أي وعاء خرجت، ووجود الأمة أمام تحدي الانتقال من الصحوة إلى النهضة، ومن فقه الدعوة إلى فقه الدولة، اعتمادا على القدرات الذاتية، دون القطيعة مع تجارب الآخرين، وغيرها من القضايا والأفكار قد تبدأ من حكومة الظل التي شكلها الإسلاميون في الجزائر، ولن تنتهي عند حدود شرعية التنمية والتطوير التي خلقتها قمة كوالالمبور الأخيرة.
س ـ لماذا برأيك فشل الإسلاميون في تطوير آلية واضحة للحكم، خاصة في مجال النظرية السياسية؟
ـ نتفق من الأول على مسألة مهمة: كلمة الإسلاميين لم تصبح دقيقة الدلالة، ومن يطلق عليهم هذا الإسم مختلفون اختلافات عميقة ويتجه كثير منهم اتجاهات فكرية وسياسية متناقضة جدا، ونحن في حركة مجتمع السلم نعتبر أنفسنا حزبا وطنيا ذو مرجعية إسلامية يؤمن بالديمقراطية في العمل السياسي وفي تسيير الشأن العام يطبقها في هياكله بصرامة ويسعى لتجسيدها في المجتمع والدولة. وتجاوزا أتناول كلمة الإسلاميين على ما هو شائع ولكن أقصد بها الحراكات التي تعتز بالإسلام وتسعى لاستئناف الحضارة الإسلامية وبسط رحمة الإسلام في الشأن العام سواء كانت إسلامية بالمفهوم المتعارف عليه إلى حد الآن أو لم تكن كذلك ولم يكن لها تاريخ في الحركة الإسلامية.
إذا كنت تقصد العالم العربي، متى حكم الإسلاميون حتى نقول أنهم فشلوا في تطوير آلية واضحة للحكم؟
في الجزائر تم الانقلاب عليهم في التسعينيات، وتم التزوير ضدهم في كل الانتخابات التي شاركوا فيها بعد ذلك وباعتراف الجميع، لا أحد يجادل في ذلك. وفي مصر تم الانقلاب عليهم بعد أقل من سنة في الحكم، ولا نجد في الفكر السياسي المستقيم من يحاسب حزبا بعد سنة من الحكم. في المغرب يبلون بلاء حسنا ضمن ظروف المغرب وكثير من الملاحظين يقولون لولا تجربة العدالة والتنمية المغربية لانهار الاقتصاد المغربي، وفي تونس كل الأحزاب والقوى السياسية التي كانت في الحكومات بعد الثورة انهارت إلا حركة "النهضة" التي تماسكت رغم الظروف الصعبة بعد أي ثورة وجاءت في المرتبة الأولى في آخر انتخابات، والذي يؤكد الفشل أو النجاح هي الانتخابات قبل أي شيء آخر. وإذا تقصد عند المسلمين غير العرب فلا أظن أن التجربة التركية أوالماليزية مثلا فاشلة.
مع أن الإسلاميين يمارسون العمل ضمن ضغوطات ومؤامرات محلية وإقليمية ودولية عظيمة، ولو كانوا فاشلين لما صمدوا أمام كل هذه الضغوطات. والذي يجب أن تهتم به النخب أكثر هو الكفاح من أجل الحريات والديمقراطية وليس فشل الإسلاميين أو نجاحهم، لأنه حين تكون ثمة ديمقراطية وحرية وانتخابات حرة ونزيهة يتوقف هذا الجدال، ويصبح من يقرر الفشل والنجاح هم المواطنون من خلال إرادتهم الانتخابية الحرة.
س ـ يثور جدل فكري محتدم منذ مدة طويلة حول ماهية الدولة الاسلامية، من ناحية الوجود أولا والآليات ثانيا، وبينما يتجه بعضهم إلى نفي الفكرة بالأساس، يصر تيار الإسلام السياسي على الدفاع عليها نظريا من دون القدرة على إعطاء تجربة واحدة على أرض الواقع؟ كيف ترون لهذه الاشكالية؟
ـ الدولة الإسلامية ليست شعارا ولا إسما بغير مضمون. كل دولة تحقق نهضة بلدها وازدهاره وتطوره علميا واقتصاديا واجتماعيا وثقافيا وتحافظ على استقلالها وسيادتها وتحقق العدل وتحفظ كرامة الإنسان وتصون حقوقه وحريته وتحفظه من الظلم وتهدف إلى وحدة الأمة واستئناف الحضارة الإسلامية وتحرير المقدسات فهي دولة إسلامية بغض النظر عن الأشكال والأسماء. والإسلام بالإضافة إلى أنه عقيدة وعبادة وأخلاق فهو كذلك مشروع حضاري قادر على تحقيق هذه النهضة المنشودة، وعلينا جميعا ـ كمسلمين وليس بالضرورة كإسلاميين ـ أن نعتمد على أصول ديننا ومقاصده ونصوصه قطعية الثبوت وقطعية الدلالة لبناء تجربة جديدة في مختلف المجالات السياسية والاقتصادية والإدارية، علما بأن الإسلام أثبت عبر تاريخه الحضاري بأنه قادر على استيعاب منجزات كل الحضارات وتراكم العبقرية والحكمة البشرية من أي وعاء خرجت. فالإسلام قوة نهوض وليس قوة تخلف، ولا بد أن ينتبه الجميع بأن الدول التي دعت إلى استئناف الحضارة الإسلامية في قمة كوالالمبور دول متطورة وليست متخلفة، خلافا لبعض الدول المتخلفة التي تحارب فكرة النهوض الحضاري الإسلامي.
وبشكل خاص أقول لك ما يلي: من الناحية النظرية كتب الكثيرون عن الفكر السياسي الإسلامي وطبيعة الدولة في الرؤية الإسلامية، وآخر مساهمة قدمتها من جهتي في هذا المجال بحث: "الدولة المدنية: رؤية إسلامية" صدر ضمن كتابي "فكرنا السياسي"، الذي أمضيته في المعرض الدولي للكتاب في الجزائر في الخريف الماضي، وهذا التوجه الجديد للمساهمات الفكرية في الساحة الإسلامية (من قبل من تسميهم الإسلاميين، وغيرهم) في "فقه الدولة" هو مسار طبيعي يجمع بين السيرورة التاريخية والحتمية النصية. عبر قرن خلا كانت مهمة التيار الإسلامي هي الدعوة الإسلامية في المجتمع وكانت النتيجة "الصحوة الإسلامية".
لذي يجب أن تهتم به النخب أكثر هو الكفاح من أجل الحريات والديمقراطية وليس فشل الإسلاميين أو نجاحهم، لأنه حين تكون ثمة ديمقراطية وحرية وانتخابات حرة ونزيهة يتوقف هذا الجدال، ويصبح من يقرر الفشل والنجاح هم المواطنون من خلال إرادتهم الانتخابية الحرة.
ـ في بدايات الدولة الإسلامية أثناء الخلافة الراشدة وفي بداية الدولة الأموية اعتمد المسلمون على إسهامات الحضارات التي سبقتهم في الإدارة والدواوين وتنظيم الاقتصاد وفي مختلف مجالات الحكم، وكانت اللغات المعتمدة في الدولة هي اليونانية والفارسية والمصرية بشكل أساسي إلى أن قرر عبد الملك بن مروان التحول إلى العربية في أواخر عهده (قرابة قرن إلا نيف بعد البعثة) فبدأ بالخراج المتعلق بالشؤون المالية، ثم استمرت عملية التحول إلى اللغة العربية أكثر من نصف قرن آخر، والذي سمح بذلك هو التعمق في علوم وتجارب الحضارات السابقة والتحكم في لغاتها ثم ترجمتها عبر مجهود حضاري عظيم أشرفت عليه دول.
فكيف يستغرب أن يستفاد من التجربة الغربية القائمة، بل أقول لك بأننا مقصرون في نقل تجارب الآخرين، والمسؤولية لا تتحملها الحركات الإسلامية لأنها لا تحكم وليست متمكنة، ولكن تتحملها الدول التي اكتفت باستهلاك منتجات الحضارات الأخرى والانبهار بها وأخذ سلبياتها فقط دون أي مجهود حضاري جاد لنقل العلم والتحكم في ناصيته والاستفادة العملية من الخبرة والبناء عليها بما يتوافق مع خصوصياتنا الدينية والحضارية.
التصور الإسلامي لبناء الدولة والنهضة والحضارة لا يقوم على القطيعة التامة مع تجارب الآخرين.