هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
تمثل تجربة الروائي الأردني يحيى حمدان مثالا فريدا في اتّخاذ الكتابة استراتيجيةً محوريّة لمقاومة إحباطات الوجود، ومواجهة ما يجده الإنسانُ في المجتمع العربيّ من تحديّاتٍ كبرى، على مستوى الحياة اليوميّة ومتطلّباتها أو فقدان أفق الأمل في القضايا الجوهريّة سياسيّا واجتماعيّا وثقافيّا، وهو حال، يؤدّي بالضرورة إلى يأسٍ وإحباطٍ في مواقفِ الإنسان من نفسه ومجتمعه، وربّما يؤدي إلى عزلةٍ أو حالةٍ أشبه بالعدميّة في التواصل مع المحيط الإنسانيّ، مثل ما نجد في حالات الانتحار الشهيرة التي شهدتها بعض المجتمعات العربيّة في السنوات الأخيرة.
ومن يعرف سيرة يحيى حمدان يتوقّع
ردّة فعل من ذلك النوع على أقلّ تقدير، غير أنّ المفاجأة كانت في ظهور مجموعة من
الأعمال الراوئيّة تعبّر عن بعض المواقف ووجهات النظر المؤلمة والحادّة تجاه ما
يحدث في مجتمعاتنا المحبطة. وكان هذا مسبوقا بانغماسٍ كبيرٍ للغاية في القراءة
التي كانت إلى درجةٍ يمكن أن توصف بأنّها حالة غير طبيعيّة، الأمر الذي قد يُفسّر
على المستوى السطحيّ المباشر بأنّه سلوكٌ مدفوع بعواملَ سيكولوجيّة ومحاولة لتحنّب
مزيدٍ من الضغط على المستوى اللاواعي. لكنّ الصورة اختلفت كليّا مع ظهور روايات
يحيى حمدان الأربعة المتلاحقة منذ عام 2015 بالإضافة إلى كتاب "نُدف"
الصادر عام 2019 وهو عبارة عن نصوصٍ نثريّة متنوعة.
من خلال هذه الأعمال، يخلق يحيى
حمدان بديلا عن بؤس الحياة، ويجعل ردّة الفعل السلبيّة ثورةً من كلمات وأحداث تتصف
بالدرجة الأولى بأنّها خياليّة، وفي الوقت نفسه تُشير إلى الواقع البائس الذي تقف
ناقدةً له بعنادٍ ورافضةً لما يقوم عليه، لكن بدلا من السلوك الواقعيّ الفعليّ
للموقف السلبيّ، أعاد الروائيّ خلقَ الواقع وردّة الفعل ضدّه من خلال الروايات،
فتكون بذلك إعادة خلق فعّالة للواقع تُبرز صفاته وموجوداته، وتوفّر في الوقت ذاته
خلاصا من السلبيّة وردّة الفعل المدمّرة واقعيّا. وهنا يغدو للكلمات شكل يماثل
معناها، وتكون آثارها على المستوى الخياليّ بديلا عن فعلها الواقعيّ. وبالطبع
يتطلّب هذا امتلاكَ إحساسٍ مرهفٍ تجاه اللغة، فيُقال في علم الجمال "إذا لم
يكن الإنسان غليظ العقل فإنّه يتخيّل بشكل غامض أنّ للكلمات شكلا يشبه معناها،
بالإضافة إلى المعنى الذي اكتسبته من الاستعمال العادي". فاللغة الروائيّة
هنا تعيد تشكيل الوجود وتُقدّم الموقف الذي لا بدّ من اتخاذه واقعيّا، دون حضور
اللغة التحريضيّة الأيديولوجيّة، التي تخاطب دون أن تمثّل أو تجسّد الأفكار
والمقولات المجرّدة في أحداث وتجارب.
اقرأ أيضا: ما سر اختيار جمال حمدان شخصية العام بمعرض الكتاب في القاهرة؟
بناء على ذلك، تمثّل هذه الأعمال
المختلفة وجهات نظر يحيى حمدان عمّا يحدث في المجتمع من إحباطاتٍ وانحرافاتٍ تؤدّي
إلى خللٍ عميقٍ وكبيرٍ في بنية الشخصيّة الإنسانيّة ومحاولة للهرب والتخلّص ولو
كان ذلك على المستوى الفرديّ؛ فنجد في رواية "الحقيبة ليست دبلوماسيّة"
الصادرة في عام 2016 شخصيّة عربي وهو قرويّ بسيط يواجه ظروفا قاسية وظالمة في
محيطه، ليس فقط بسبب الفقر، وإنّما بفعل خللٍ كبيرٍ ومتأصّلٍ في مجتمعه، يظهر في
الطبقيّة وعدم وجود مؤسسات فعّالة تنظّم المجتمع وتمنع الانقسامات الحادّة التي قد
تؤدّي إلى تهالكه وخرابه. يواجه عربي وهو متعلّم لم يُضفْ علمُه الكثير لتجربته وفي نهاية المطاف كان هذا التعلّم مجرّد
أداة للهرب والخلاص الفرديّ الذي لم ينعكس بأيّ شكلٍ من الأشكال على محيطه الاجتماعيّ
ولم يشكّل أيّ موقفٍ قابلٍ للتعميم أو التأثير. وكنتيجة تلقائيّة لهذه الحال، يقرر
عربي الهربَ والخروجَ من مجتمعه من أجل الخلاص مما يلاقيه في هذا المجتمع، وعلى
الرغم من أنّ الدرب للهرب لم يكن سهلا والمكان الجديد الذي قصده ليس مرحبّا به، إلا أنّه فضّل الذهاب وحدَه
والخلاص الشكليّ والفرديّ.
وفي رواية "بين مصراعين"
الصادرة عام 2018 يمارس البطل حجّاج دورا ساديّا ويقوم بأفعال انتقاميّة من كلّ من
هم حولَه بما فيهم زوجتُه ليلى المرأة الطيبة والتي تتصف بقدرةٍ حقيقيّةٍ على
التعامل الفعّال مع الحياة والتعامل بإيجابيّة ومحاولة االتخلّص من بؤس أسرتها.
يتزوّج حجّاج من ليلى في الأساس رغبةً في الانتقام من والدها الذي منع عنه مساعدةً
بسيطةً في وقتٍ كان في أمسّ الحاجة لها. وبعد الزواج، ينكّل بها انتقاما من
والدها، إلا أنّ قدرتها على التدبير وشخصيّتها الإيجابيّة غيّرت موقف حجّاج منها
وجعلته غير قادر على مواجهتها، دون أن يتخلّص من غلّه من والدها، فيهرب من بلاده
ويتورّط في أعمال غير قانونيّة تؤدّي به إلى خسارته كلَّ شيءٍ ويصل إلى حالةٍ يفقد
فيها عقلَه وذاكرتَه.
ما آل إليه كلٌّ من عربي وحجاج في
الروايتين المذكورتين أعلاه يمكن أن يُعاد إلى موقفٍ الروائيّ نفسِه الذي كان من
الممكن أن يتّخذه تجاه مجتمعه ومحيطه، سواء أكان ذلك على مستوى محاولة الانتقام من
المحيط أو على مستوى الموقف السلبيّ المتمثّل بالهرب وارتكاب أعمال غير مسؤولة تؤدّي في نهاية
المطاف إلى خسارة كلّ شيء. وهذا نمطٌ من التطهير يستطيع الأدب والكتابة أن يقوم به
وخلق حالةٍ نسبيّةٍ من التصالح والخلاص.