هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
مع نشر هذا المقال ستكون جريدة "السبيل" الأردنية قد أطلت على قرائها لآخر مرة في عددها الأخير الذي سيحمل الرقم (4365)، لتكون بذلك قد أنهت 27 عاماً من الصدور دون انقطاع في الأردن، وبينما ستكون الجريدة المحسوبة على الاسلاميين قد انتهت الى الأبد فان نزيفا من الأسئلة سيكون قد بدأ من لحظة غيابها.
إدارة "السبيل" قررت التوقف عن الصدور اعتبارا من بداية العام 2020 بعد أن أنهكتها الديون وأثقلتها الاعباء المالية، لتكون ثاني صحيفة يومية تغلق أبوابها في الأردن خلال عام واحد، والثالثة خلال سنوات قليلة، فضلا عن عشرات الصحف والمجلات الأسبوعية والشهرية التي اختفت وتختفي بصورة متسارعة أمام التحول الكبير في المشهد الاعلامي.
بطبيعة الحال يحلو لكثيرين القول إن "صحافة الانترنت" حلت مكان وسائل الاعلام التقليدية وعليه فيحلو لهؤلاء تخيل أن انهيار المؤسسات الاعلامية التقليدية هو النتيجة المنطقية لظهور الاعلام الالكتروني، وهذا في الواقع ليس صحيحا بدليل أن الصحافة المطبوعة لا تزال على قيد الحياة في دول العالم المتقدم، وفي بريطانيا على سبيل المثال فان جريدة "الصن" لا تزال توزع أكثر من مليوني نسخة مطبوعة يومياً وفي نفس الوقت فان موقعها الالكتروني يستقطب ملايين القراء الآخرين يومياً، أما جريدة "التايمز" فلا تزال تصدر بطبعة ورقية وطبعة الكترونية وكلاهما يتم بيعه بمقابل مالي ولديها اليوم نحو مليون مشترك بعضهم يكتفي بقراءة الصفحات الكترونيا والبعض الآخر لا يزال ينتظرها مطبوعة لتصل الى منزله كل صباح.
إغلاق "السبيل" ليس قرارا يتعلق بالـ50 أو الـ60 أو ربما المئة موظف الذين يعملون بها والذين سينضمون اعتباراً من مطلع العام الى طوابير العاطلين عن العمل في الأردن، إذ المسألة أكبر من هذا التسطيح بكثير، وإنما هي تعبير عن أزمة قطاع بأكمله يمثل في نهاية المطاف السلطة الرابعة التي تمارس رقابتها باسم الشعب على العمل العام وأموال دافعي الضرائب.
ثمة جملة أسباب وراء انهيار "السبيل" واضطرارها لاتخاذ قرار بالاغلاق، أهمها القانون الذي بدأ سريانه اعتباراً من تشرين ثاني/ نوفمبر 2017 والذي يُقيد نشر الاعلانات القضائية ويميز بين الصحف، وهو قانون ألزم المحامين والمحاكم بنشر اعلاناتهم في صحيفتين فقط أو ثلاثة دون غيرهم، ليكون بذلك قد نفذ عملية قوننة للاحتكار في سوق الاعلان الأردني، مع وجوب الاشارة هنا الى أن الحكومة تملك حصة أغلبية في اثنتين من الصحف الثلاثة الكبرى في الأردن!
هناك أسباب أخرى عديدة وراء انهيار "السبيل" تحتاج لكثير من البحث والتمحيص، لكن المهم في الأمر أن وسائل الاعلام المستقلة بدأت تتقلص وتنكمش في العالم العربي، والحكومات عادت لتهيمن على الاعلام الجماهيري من جديد، ففي الأردن أيضا أغلقت جريدة "الديار" أيضا وتوقفت عن الصدور قبل شهور قليلة، وقبل سنوات من ذلك اختفت جريدة "العرب اليوم" التي كانت يوما ما امبراطورية إعلامية مستقلة يحسب لها الناسُ في الأردن ألف حساب.
تتوقف جريدة "السبيل" عن الصدور اعتباراً من فجر الأربعاء، وهو اليوم الأول من العام 2020، بعد 27 عاماً قدمت خلالها نموذجا فريداً، فقد بدأت صحيفة أسبوعية، تحولت الى يومية، ثم تتحول الان الى موقع الكتروني، وخلال الربع قرن الماضية، غطت "السبيل" أحداثا تاريخية خالدة من بينها توقيع اتفاق أوسلو في سبتمبر 1993، ومعاهدة وادي عربة في أكتوبر 1994، وغزو العراق في 2003، واستشهاد كل من الشيخ أحمد ياسين والرئيس ياسر عرفات في العام 2004.. إضافة الى هجمات 11 سبتمبر 2001 التي دفعت "السبيل" لأن تكون الصحيفة العربية الوحيدة التي تُصدر ملحقاً أسبوعيا بشأنه ظل يصدر لسنوات لاحقة.
تتوقف "السبيل" أخيراً عن الصدور وتودع قراءها لتفتح بذلك الكثير من الأسئلة أمام وسائل الاعلام في العالم العربي ومستقبلها، كما تطرح سؤالا مهما بشأن ما ينبغي فعله حتى يتم الحفاظ على هذه المؤسسات ومساندتها والحيلولة دون انهيارها من أجل الحفاظ على السلطة الرابعة التي تقوم بدور رقابي مهم، كما أن النظام الديمقراطي لا يمكن أن يستقيم ويستوي إذا غابت هذه السلطة وغاب دورها.