أخبار ثقافية

فيلم "شيخ جاكسون"... الحياة خارج معادلة الصفر

شيخ جاكسون - ارشيفية
شيخ جاكسون - ارشيفية

يرتكز فيلم "شيخ جاكسون" –إنتاج 2017- على عدد من الثنائيات المتضادة التي تشكّل حياة الإنسان وتصنع التحوّلات الجوهرية فيها. الأمر الذي كشف عن موهبة المخرج عمرو سلامة في التعاطي مع هذه الثنائيات واللعب على تناقضاتها عبر اللجوء إلى التنويع التقني، فتنقّل بخفة بين الفلاش باك وتوظيف الأحلام والتوهمات النفسية وصناعة الحوارات والسير على الخطوط الرفيعة التي تكشف عن الرغبات الإنسانية والعجز عن دفنها.

 

كذلك عبر اختيار الممثلين الذين أتقنوا الأدوار وتماهوا مع الشخصيات كأنها شخصياتهم الحقيقية ابتداءً من الفنانين الثلاثة الذين قاموا بدور البطل في مراحل حياته المختلفة طفلاً ومراهقًا وشابًا (الطفل عمر أيمن والفنانين أحمد مالك وأحمد الفيشاوي) أو الفنان ماجد الكدواني الذي قام بدور الأب وانتهاء بأصغر الأدوار في الفيلم.

كما يكمن اختلاف الفيلم عن غيره من الأفلام في سعيه إلى كسر الصورة النمطية للمتديّن التي اعتادت الأفلام المصرية على تقديمه لنا من الخارج عبر لازمة الإرهاب والتشدّد؛ فقدّم لنا المخرج شخصية متديّن عادي ليس إرهابيًا ولا يلجأ إلى ترويع الناس، قدمه لنا من الداخل مسلطًا الضوء على صراعه النفسي والهوياتي. وسنحاول في هذا المقال تسليط الضوء على أبرز هذه الثنائيات التي صنعت الفيلم:


الحياة/ الصفر          

عند قيامنا بقسمة أي عدد على ما لا نهاية ستكون النتيجة صفر. هذه المسألة الرياضية تعبّر عن الحياة التي مهما طالت ستؤول بالإنسان إلى الصفر/ الموت. وسيبدأ البطل/ الطفل الذي سيحمل بدايةً اسم الدلع "دوده" من الصفر الذي تجسّد في موت الأم (نجاة) بسبب مرض صدري، وبفقدانه لطوق النجاة سيجد نفسه أمام خيارين لأقرب شخصين منه وهما والده وخاله اللذان قاما بالاختيار وفقًا لمعادلة الصفر لكنهما وصلا إلى نتيجتين متناقضتين: الأب وجد أن الحياة فانية فقرر أن يستمتع بكل دقيقة تمر وأن يعيش الحياة بكل ملذاتها وأخطائها، والخال الشيخ عاطف –قام بدوره الفنان محمود البزاوي- الذي وجد أن الحياة تؤول إلى الصفر فقرر تجاوزها والعمل من أجل حياة أخرى خالدة هي حياة الآخرة. وبين الخيارين ستبدأ رحلة البطل التي تشبه رحلة جلجامش بحثًا عن الخلود، وسيبدأ باختيار النموذج الأول ولكنه سينفر من شخصية الأب القاسية وستتوفّر مجموعة من الظروف التي تدفعه إلى تقليد نموذج لأب مختلف وهو الفنان العالمي مايكل جاكسون.

الفنان/ المخنّث –والأقل قسوة- الذي يكرهه الأب وينفر من فقدانه الذكورة سيجد فيه البطل نموذجه الأعلى وسيحاول تقمّصه في كل شيء: رقصه وشكله ولباسه. وسيُنزع عنه اسمه الطفولي ليكتسب اسمًا يربطه بالنموذج الجديد "جاكسون"، وهو تقمّص سيتزامن مع وقوعه في حب إحدى زميلاته في المدرسة حبًا عذريًا. لكنه سيصطدم بقسوة والده ومحاولته لكسر هذا النموذج الرخو داخله والذي سيسخر من براءة حبه ويخبره بأنه إن لم يُقبّلها فإنها ستذهب إلى غيره، وهنا سيعبر البطل إلى مرحلة جديدة في لحظة يكون في مقدوره إثبات مهارته في تقمّص النموذجين معًا: الفنان من خلال محاكاة رقصته أمام الجميع، ونموذج الأب من خلال سعيه إلى تقبيل الفتاة والخروج من ثوب العذرية. غير أنه سيكتشف أن الفتاة تعاني مرضًا صدريًا يذكره بحالة والدته ويغرس فيه فكرة فقدان الأحبة، مما سيدفعه إلى كسر النموذجين معًا والذهاب إلى الخيار الآخر على الضفة الأخرى من معادلة الصفر.

هنا سيتخلى عن الأب ويدخل تحت جناح أب آخر (الخال) وفي سعيه إلى التخلي عن الحياة الدنيا في مقابل الجنة سيفقد اسم "جاكسون" ليكتسب اسمًا يتوافق مع المرحلة الجديدة وهو "الشيخ".

البكاء /الفرح

في الوقت الذي يظن فيه البطل أنه وصل إلى الخيار الذي سينقذه ويقوده إلى "النجاة" –التي تذكرنا باسم أمه- سيصطدم بخبر وفاة الفنان "مايكل جاكسون". وهنا ستبدأ سلسلة من الانتكاسات التي تعترض سبيل مضيه في الخيار الثاني؛ إذ سيفقد القدرة على البكاء والخشوع في الصلاة الأمر الذي يشير إلى دلالة خطيرة في عرف المتدينين وهي أن إيمانه يتعرّض للانتكاس. كما سيعاني من كوابيس في أحلامه إذ سيتكرر أن يرى نفسه ملفوفًا في كفن ويقوم أشخاص بدفنه، وسيتطوّر الأمر إلى أن تتحوّل الكوابيس إلى هلوسات تظهر له أثناء يقظته بل أثناء صلاته؛ إذ سيتكرر ظهور جاكسون في حياته وهلوساته وأحلامه. الأمر الذي سيعرقل طمأنينة البطل ويعيده إلى مرحلة الشك من جديد ويجعل مسألة خيار التديّن موضع شك لديه، مما يجعله يبحث عن العلاج النفسي، ويشرع في رحلة بحث جديدة.

 

اقرأ أيضا: رحيل رائد الدفاع عن اللغة العربية بمصر (شاهد)

 ولكن السؤال هو لماذا كان توقفه عن البكاء هو دليل انتكاسة إيمانه؟ وليس الكوابيس والأحلام والهلوسات؟ سيجيب البطل عن أسئلة الطبيبة النفسية عبر اللجوء إلى المدونة الدينية التي تخبرنا عن فضل البكاء من خشية الله. غير أنه سيخبرنا أن أول مرة بكى فيها كانت يوم وفاة والدته، ومن خلال الفيلم سنعرف مدى تعلقه بها وأن طقس البكاء يذكره بها ويجعلها قريبة منه الأمر الذي يشعره بالطمأنينة، وسيتكرر البكاء كطقس طهراني أقرب إلى طقوس الموت والانبعاث.

ضياع الهوية/ الجذور

يفتقد المُشاهد طوالَ الفيلم إلى معرفة اسم البطل الذي لن يُكشف عنه إلا في الجزء الأخير من الفيلم، وسيتنقّل عوضًا عن ذلك بين عدد من الألقاب وفقًا للخيار الذي يذهب إليه البطل في رحلة تحوّلاته. ورغم أنه سيُسأل عن اسمه أكثر من مرة في الفيلم لكن المخرج سيحجب عنا اسمه حتى اللحظات الأخيرة التي يبدأ فيها البطل بالتصالح مع نفسه ومع والده. وغياب الاسم مرتبط بضياع الهوية التي كان يعيشها في تقمصه لهويات خارجية لا تمس هويته الحقيقية. وسيكشف عن اسمه "خالد" حينما يقرر زيارة أبيه ويتصالح معه؛ أي حينما ينزع أبوة الخال المصطنعة ويقرر العودة إلى جذوره.

في بداية الفيلم يظهر البطل وهو يشرح لزوجته فوائدَ الخاتم الإلكتروني الذي يضعه في إصبعه، ويخبرها بأن الزر الأحمر لتسجيل السيئات والأخضر للحسنات؛ فإذا عمل سيئة ضغط على الأحمر وإن كانت حسنة ضغط على الأخضر، ولكنه حينما عاد إلى أبيه وتصالح معه –بعد أن كان يرفض دخول بيته بسبب وجود الخمر فيه-  وجد نفسه محتارًا على أي زر يضغط. ثم يختار ألا يضغط على أي منهما في إشارة إلى أنّ العلاقات الإنسانية الطبيعية خارج معادلة الصواب والخطأ.

الفناء/ الخلود


وتصالحه مع الجذور سيساعده على الوصول إلى إجابة عن سؤال الخلود التي قطع شوطًا طويلا من حياته يبحث عنها. فالإجابة لم تكن في الهروب من الهوية عبر تقمّص شخصية أخرى والعيش في تفاصيلها، وليست كذلك في تعليق الحياة على هامش الموت والارتباط بمتعلقاته من حمل الكفن وكتابة الوصية والنوم تحت السرير (المعادل الموضوعي للقبر)، لكن الخلود/ الإجابة هو خلود اللحظة التي يعيشها الإنسان متصالحًا مع ذاته ومتقبلاً لها كما هي. هو خلود مؤقّت لكنه حقيقي. وحينما ينزع عنه أقنعته السابقة (دوده وجاكسون والشيخ) في نهاية الفيلم يختار أن يعود إلى الرقص على أنغام مطربه المفضّل "مايكل جاكسون" غير أنه يرقص بوصفه "خالد" وليس جاكسون الشبيه. حينها سنسمع صوت الطبيبة تسأله:


-وعرفت تعيّط؟
فيجيبها:
-لا، بس حسيت إني لو للحظة "خالد"!

1
التعليقات (1)
morad alamdar
الخميس، 12-12-2019 12:44 م
طبيعة الثقافة الهشّة أن تنظر للثقافات المقابلة بوصفها ثقافة مهددة لا ثقافة منافسة ، و بهذا فالقائلون بالغزو الثقافي إنما يتهمون ثقافتنا ، و إن توهموا أنهم يتهمون الثقافة المقابلة . عبد الله الغذامي : ناقد سعودي