هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
مع بداية الموجة الثانية من الاحتجاجات التي اجتاحت العراق يوم 25 تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، قلنا إن هناك جملة معطيات ستحدد مصيرها: من بينها أعداد المحتجين، وطبيعة الانتشار الجغرافي لحركة الاحتجاج، وأخيرا امتدادها الزمني، وإمكانية وصولها إلى حركة عصيان مدني. ومع نهاية أسبوعها الأول تحولت حركة الاحتجاج من فئوية إلى ثورة بكل ما تحمله الكلمة من معنى، حين التحقت فئات المجتمع المختلفة إليها، وهي وإن بقيت محصورة في مناطق بغداد والجغرافيا الشيعية بشكل عام، لأسباب موضوعية عديدة، إلا أنها استطاعت، من خلال طبيعة مطالبها الجوهرية، التي تطورت تصاعديا، أن تحظى بتعاطف ودعم عابر للهويات الفرعية بشكل غير مسبوق.
وبعد مرور أسبوعين على الاحتجاجات، وتصاعد
زخمها، وانتشارها جغرافيا، لا يزال كارتل الدولة/ السلطة متشبثا بمواقعه، وصفقاته،
وزبائنيته، وهو غير مستعد كما قلنا مرارا لتقديم تنازلات، بل ثمة قرار قد اتخذ
بعدم تنفيذ أي من المطالب الجوهرية التي تهدد هذه المنظومة صراحة، وتطالب بتغيير
حقيقي في بنية النظام السياسي القائم؛ وذلك من خلال التجاهل والعمل على احتوائها،
وحصرها في مناطق محددة، وتحويلها إلى كرنفالات للفرجة، على أمل أن تتحلل مع الوقت.
وقد تأكد للجميع بعد كل ممارسات العنف الكبير الذي جوبه به المحتجون، أن هذه
السلطة / الدولة مستعدة للذهاب إلى خيار المواجهة، ولن تلتفت لفاتورة الدم التي
ستنتج عن هذه الممارسات.
بموازاة ذلك، كانت هناك محاولات منهجية،
ومنظمة، تقوم بها أطراف عديدة في كارتل الدولة/ السلطة هذا، والمستفيدين منه،
لشيطنة المحتجين، واتهامهم اتهامات شتى، بما فيها التمويل الخارجي! والتعكز على
أية صورة أو فيديو أو شعار أو إشاعة أو ممارسة فردية لترسيخ هذه الشيطنة، فضلا عن
محاولة التمييز بين «متظاهرين سلميين»، و«مخربين مندسين»، لشرعنة عمليات الإعدام
الميدانية التي تقوم بها القوات الأمنية، ومن معها من قوات مجهولة تعمل بمعيتها أو
بحمايتها، وتبرير ذلك باستخدام عبارة «الطرف الثالث»، في محاولة للتهرب من مسؤولية
الجرائم التي ترتكب!
خلال أسبوع من الموجة الأولى للاحتجاجات، وعلى
الرغم من العنف المنهجي الذي استخدم ضد المحتجين، لم يسجل أي اعتداء على الممتلكات
العامة والخاصة، وبعد مرور أكثر من ثلاثة أسابيع على الموجة الثانية من
الاحتجاجات، لم تسجل سوى قائمة أهداف محددة، بوصفها «رموزا» لكارتل الدولة/
السلطة، أو للقوى الإقليمية التي تدعمه (القنصليات الإيرانية تحديدا).
ولكن الأسبوعين الأخيرين شهدا اتساعا في قائمة الأهداف، وإذا كانت الموضوعية تقتضي الاعتراف بأن بعضا من هذه الهجمات يقوم بها محتجون غاضبون على تجاهل مطالبهم، والاعتداءات المنهجية عليهم، قتلا، وخطفا، وتعذيبا، وتهديدا، فان طبيعة التغطية المبالغ بها لهذه الهجمات، واستخداماتها، تشي بما لا يقبل الشك، بأن ثمة أيادي «رسمية»، أو «مغطاة رسميا» تقف خلفها، لاستخدامها ذريعة لمزيد من الشيطنة للمحتجين، تمهيدا لاستخدام للعنف «الرسمي» و «المشرعن» تجاه المحتجين لغرض إنهاء حركة الاحتجاج بالقوة! رأينا ذلك من خلال تركيز القنوات الإعلامية التابعة للدولة، أو التابعة لكارتل الدولة/ السلطة، على نقل مشاهد، لا يمكن التأكد منها، لاعتداءات مفترضة على القوات الأمنية، وعلى مجاميع ملثمة، أو إشاعة اعتداءات مسلحة ضد القوات الأمنية، أو مشاهد الحرائق المريبة التي بدأت تطال، في الأسبوعين الأخيرين، بعض الممتلكات العامة والخاصة. وقد جاء في هذا السياق نفسه القرار الأخير الذي صدر يوم الأربعاء 27 تشرين الثاني/ نوفمبر بعسكرة الإدارات المحلية، عبر تعيين قيادات عسكرية لقيادة خليات الأزمة التي تشكلت في كل محافظة، استعدادا لأي قرار بفض حركة الاحتجاج بالقوة، وكانت نتيجتها الأولى المجزرة التي حصلت في الناصرية بعد تنفيذ القرار بيوم واحد.
على أن ثمة استراتيجية أخرى،
يتم الإعداد لها، هو محاولة استخدام، أو إنتاج، حركة احتجاج مضادة، تعتمد على
مقولة «مصالح الناس المعطلة بفعل الاحتجاجات»، وتستند إلى بعض المتضررين
الحقيقيين، بفعل امتداد الاحتجاجات لمدى زمني طويل نسبيا، مع عدم وجود أي أفق
لنهايتها، بالعمل على استخدام صدام حقيقي، أو خلق صدام مفتعل بين الطرفين، يبرر
للسلطات» الرسمية» القيام بواجبها لفض النزاع بينهما كحجة لفض الاحتجاجات والاعتصامات
بالقوة!
وبالتوازي مع خطة «الثورة المضادة»، التي بدأت
عمليا، لجأت السلطة إلى تكميم الأفواه، ومنع الإعلام من التغطية المباشرة، وغير
المفلترة، ليوميات الاحتجاج، فبعد فشل كارتل الدولة/ السلطة، عبر ملثميه
وميليشياته، وطرفه الثالث، في ضبط هذه المسألة (تمت مهاجمة أكثر من قناة فضائية
لمنعها من البث)، استكملت هيئة الإعلام والاتصالات هذه المهمة بإصدار قرار تعسفي
بإغلاق 9 قنوات فضائية، و4 إذاعات، فضلا عن تهديد أخرى بالغلق، بحجة مخالفتها
لمدونات السلوك المهني، بل ووصفها بالـ «محرضة»، الأمر الذي يثبت مرة أخرى أن ما يسمى
بالهيئات المستقلة جميعها، وليست المفوضية العليا للانتخابات فحسب، يجب أن تكون في
صلب مطالب التغيير، لاسيما أنها انتهت إلى أن تكون مجرد أداة بيد السلطة
التنفيذية، و بيد الفاعلين السياسيين الأقوياء!
منذ البداية، كان الرهان على عامل استخدام
الزمن حاضرا في تفكير كارتل الدولة/ السلطة، على أمل فقدان الحركة الاحتجاجية
زخمها ذاتيا، أو من خلال عوامل أخرى، من بينها دخول فصل الشتاء. أو حصول انقسامات
ومواجهات بين المحتجين أنفسهم (بالتأكيد لا أحد يستطيع الحديث عن نواة حركة
الاحتجاج بأنها كتلة صلدة، ومنسجمة).
لكن الرهان الأهم كان على العمل على تقويض التعاطف الشعبي الاستثنائي الذي حظيت به حركة الاحتجاج، من خلال شيطنتها، ومن خلال تسويق أن قطع الجسور والشوارع، أو التأثير على عمل الشركات النفطية والموانئ، أو توقيف الدراسة، ولوقت طويل، سيضر بمصالح العديد من الفئات الاجتماعية، أو من خلال ما تم إشاعاته بأن ثمة «خططا» لتهريب السجناء المنتمين لداعش، تحديدا سجن الحوت في الناصرية/ محافظة ذي قار، أو بأن هناك «تحركات مريبة» لمهاجمة المرجع الشيعي الأعلى في العراق السيد على السيستاني. وعلى الرغم من أن هذه المحاولات لم تنجح حتى اللحظة، إلا أن الرهان على إمكانية نجاحها في ظل أي متغير لا يزال قائما .
في رواية «جمهورية كأن»، عمد الروائي علاء
الأسواني، والذي كان فاعلا في الثورة المصرية، وشاهدا عليها، إلى تتبع
الاستراتيجيات التي اعتمدها كارتل الدولة/ السلطة في مصر، بعد رحيل الرئيس حسني
مبارك، من ذلك تشكيل الثورة المضادة، التي استطاعت أن تقوض مكتسبات ثورة يناير
بالنهاية! ومن الواضح أن كارتل الدولة/ السلطة في العراق غير مستعد أبدا، في
الأقل، لتقديم كبش فداء واحد من الخط الأول من الطبقة السياسية الفاسدة، فقد وعى
الدرس المصري جيدا.
لهذا، يبقى الرهان الوحيد على المحتجين
والمحتجات في الساحات، هؤلاء الشباب القابعون في شوارع بغداد والبصرة والناصرية
والنجف ومدن العراق الأخرى، والذين رسموا بدمهم وأحلامهم ملامح المستقبل الذي
يريدونه لوطنهم.
(القدس العربي)