هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
«ثابت وواضح ولا غبار عليه»، هذا ما يكرره المسؤولون الجزائريون كلما سألوا عن موقفهم من معضلة الصحراء. لكن وعلى فرض أن يكون ذلك قد صح ماضيا، فمن يستطيع الآن أن يجزم بوثوق بأن كل شيء سيثبت على حاله، وأن الجزائر لن تعدل تصوراتها ومقارباتها المعروفة للمشكل؟
من المؤكد أن ما يشغلها اليوم أمر مختلف
تماما، فجل اهتمامها وتركيزها ينصب على المسار الذي ستأخذه الأحداث من هنا إلى شهر
آخر. إذ لا شيء ينفي أو يؤكد أيضا إن كانت الانتخابات الرئاسية التي حددت لها
السلطات موعدا في الثاني عشر من الشهر المقبل ستجري كما هو مقرر لها أم لا؟
كما أنه ليس معروفا بعد وفي صورة ما إذا جرى الاقتراع وسط حالة من الرفض الشعبي، وربما حتى المقاطعة، إن كان سيخرج بالأخير رئيس يملك من المقبولية والشرعية ما يجعله قادرا على أن يحقق انتظارات الجزائريين وآمالهم، ويلبي بالمقابل أيضا تطلعات جيرانهم في حل العديد من القضايا والخلافات القائمة بينهم وبين الجزائر؟ أم أنه سيحافظ على الموجود ويبقي حليمة على عاداتها القديمة؟
ربما لم ينتبه معظم الجزائريين
كثيرا لما قالته الشخصيات الخمس التي أعلن المجلس الدستوري عن قبول ترشحها لتلك
الانتخابات في حملاتها الانتخابية، ولا اهتموا أيضا وبشكل واسع بالبرامج أو الوعود
التي قدمتها لهم. فهي أي تلك الشخصيات تبقى بنظر جزء واسع منهم صنيعة منظومة تكلست
وتجمدت، وصار رحيل كل رموزها بلا استثناء مطلبا عاجلا وملحا، يتمسك به المحتجون
بشدة.
غير أن جيرانهم وهم يرقبون على امتداد شهور
حالة الشد والجذب المستمرة بين النظام وقوى الحراك الشعبي، قد ينظرون لبعض المواقف
والتصريحات التي يدلي بها هؤلاء من زاوية أخرى، ويرون من خلالها بعض المؤشرات
المهمة في فهم المرحلة المقبلة في الجزائر، في صورة ما إذا تمكن النظام من حسم
صراعه من أجل البقاء وتجديد نفسه بالالتفاف بشكل من الأشكال على إرادة الجزائريين.
ومن حيث الصياغة والشكل، تبدو القوالب شديدة الشبه بعضها ببعض. فلا أحد من المرشحين الخمسة يخالف الباقين، في أن السياسة الخارجية التي سينتهجها في حال فوزه لن تحيد عن مبدأ التعاون وحسن الجوار. فالجميع هنا متفق على ضرورة تحسين العلاقات، خصوصا مع ما يصفونها بالجارة والشقيقة المغرب.
ولكن مثل ذلك التعميم قد يكون خادعا ومضللا
وفضفاضا بعض الشيء، إذ يكفي أن ندقق في بعض المواقف حتى نرى بوضوح كيف أنه عندما
يتعلق الأمر بالموقف من الصحراء بالذات، وهي العقبة الكبرى أمام تطبيع العلاقات
الجزائرية بالكامل مع الرباط، وتحرير المغرب الكبير من مكبلات انطلاقه، فإن بوادر
الانفتاح على الجارة الغربية في اتجاه إحداث تحول إيجابي نحوها تبدو محدودة وشبه
معدومة، رغم أن هناك من يحاول من خلال بعض الإشارات المتضاربة أن يوحي بعكس
الانطباع السائد دائما بأن هناك موقفا جزائريا واحدا وثابتا من تلك القضية، وغير
قابل كما ترى المنظومة للتغيير، أو حتى التعديل في المستقبل.
ففي حين أظهرت بعض الصفحات
الداعمة للمرشح عز الدين ميهوبي مثلا خريطة المغرب غير منقوصة من الصحراء عاد الأخير
ليؤكد السبت الماضي في حديث لوكالة الأنباء الروسية سبوتنيك وجهة النظر الجزائرية
التقليدية من النزاع، ويقول إن «موقف الجزائر من القضية الصحراوية واضح وصريح، فمن
حق الشعب الصحراوي تقرير مصيره، تطبيقا للائحة الأممية ألف وخمسمئة وأربعة عشر،
ومقررات اللجنة الرابعة لتصفية الاستعمار، وطالما أن الأمر متكفل به على مستوى
الأمم المتحدة، والطرفان المعنيان المغرب والبوليزاريو، يتفاوضان باستمرار
فالمسالة واضحة». ورغم أن مرشحا آخر هو علي بن فليس لم يفتح الباب تماما لتغير
مرتقب في الموقف من الصحراء، إلا أن تأكيده على أن كل القضايا العالقة مع المغرب
يمكن أن تحل بالحوار، قد يجعل من تلك الفرضية أمرا غير مستبعد بالمرة. ومع ذلك
فسيكون من الوهم والسراب أيضا أن ينتظر المغاربة من أي واحد من المرشحين الخمسة أن
يقطع في حال فوزه مع السياسة الجزائرية الحالية تجاه البوليزاريو، وينحاز للرؤية
المغربية لحل المعضلة الصحراوية.
فهي أي تلك المعضلة باتت
أشبه بالبيضة التي تدر ذهبا، ولن يكون من الوارد أو المعقول أن تفكر المنظومة
القديمة في التخلي عنها والتفريط فيها بسهولة. لكن كيف تفسر بالمقابل إذن تصريحات
أخرى كتلك التي أدلى بها الأمين العام السابق لجبهة التحرير الوطني عمار السعداني
في وقت سابق للموقع الإخباري «كل شيء عن الجزائر»، التي خرجت عن الخط المألوف؟ هل
هي بالفعل كما قال عنها الناطق الرسمي باسم الحكومة مجرد «مواقف فردية لا تلزم إلا
أصحابها»؟ أم أنها تعكس وبشكل ما نوعا من الانقسام الموجود داخل منظومة الحكم حول
طريقة التعامل مستقبلا مع الملف؟
لقد كان أهم ما قاله سعداني في تلك التصريحات،
فضلا عن تأكيده على مغربية الصحراء هو الإشارة إلى أن «الظرف مناسب (للتوصل إلى
حل) لأن هناك انتخاب رئيس جديد، وتغير في النظام التونسي، والجزائر مقبلة على
انتخابات، وهناك تغير في النظام، كما أن ليبيا تعيش تحولا، وهذا يمكن أن يؤدي
لإعادة إحياء المغرب العربي، كما طالب به قدماء جبهة التحرير، وأيضا الأحزاب
الوطنية في كل من المغرب الجزائر تونس وشمال أفريقيا».
ولم يكن ربط واحد من رموز
المرحلة القديمة لتطور محتمل في الملف بالتحولات الإقليمية بالعارض أو العبثي،
وإذا أضفنا له تأكيدات أكثر من مرشح رئاسي على فتح قنوات الحوار مع المغرب، فإنه
سيكون بالإمكان أن نستنتج بأن هناك رغبة جزائرية في التوصل إلى تسوية ما لكل
الملفات العالقة مع المغرب بما فيها نزاع الصحراء. لكن إلى أي مدى سيترجم ذلك على الأرض،
وهل انه سيبلغ درجة التخلي عن دعم البوليزاريو، ومراجعة الموقف من تقرير المصير
بشكل جذري؟ سياسيا سيكون المخرج الذي سيحفظ ماء وجه النظام، هو القبول بما ستقرره
الأمم المتحدة في النزاع المعروض عليها، متى اقتنعت الهيئة الأممية ومن ورائها
القوى الكبرى بأن لا مفر لها من التسليم بـ»الحل الواقعي» الذي يطرحه المغرب، وهو
الحكم الذاتي للصحراء.
غير أن ذلك سيرتبط بشكل أساسي بموقف المؤسسة
العسكرية، مما يعتبر صندوقا أسود يخفي أسرارا لا يرغب الجنرالات في خروجها للعلن.
أما كيف سيكون الأمر في حال ما اذا تمكن الحراك من قلب الطاولة وفرض إرادته على
الجميع، وهل أن الجزائريين سيشاطرون حينها مواقف النظام من القضية الصحراوية أم
لا؟ فرغم انه لم يصدر إلى الآن ما قد يدل على انهم قد يدفعون باتجاه مقاربة
بعينها، فانه لن يكون مستبعدا أن لا تستثني رياح التغيير حين تهب على الجزائر كل
المواقف التي قيل عنها في السابق إنها ثابتة وواضحة ولا غبار عليها.
(القدس العربي)