كشف مقتل البغدادي، زعيم تنظيم "
داعش"، حالة من الإنكار في أوساط كثيرة، لم ترَ في الرجل وجماعته إلا صنيعة استخباراتية خالصة، انتهت مهمّتها، أو غُيّبت، ولو في الظاهر، لأغراض سياسية أو استخباراتية. ولا شكّ في أنّ مثل هذا التصوّر يستند في بعضه إلى ما يُدعى بـ "نظرية المؤامرة"، وهي نظريّة مظلومة حينما تتضخم إلى الدرجة التي تكاد تؤلّه القوى الكبرى فلا يخطئ تدبيرها، وتنفي أي عوامل ذاتيّة مجرّدة عن تدبير تلك القوى.
وفي بعض آخر من تصوّرات تلك الأوساط، فإنّها تستند إلى وقائع تُبيّن استفادة القوى المعادية للأمّة من هذا التنظيم، الذي صار "لافتة" تقبل أن ينتسب إليها أيّ عمل، من شأنه أن يُوظَّف لصالح تلك القوى، أو أن يسيء للإسلام والمسلمين؛ ما دام هذا التنظيم قد جعل أهل الأرض كلّهم أعداءه، مستباحي الدمّ، بما في ذلك طوائف واسعة من المسلمين. كما أنّه بخطابه وسياساته كان من أهمّ العوامل في تحطيم ثورة السوريين، وإفساد مظاهرات العراقيين في المدن السنّية، ويدخل في تلك المستندات، قيامة التنظيم السريعة من الركام ليهيمن على أراضٍ واسعة في سوريا والعراق.
إلا أنّ هذا التصوّر، في جانب منه، ولا سيما لدى بعض الإسلاميين ممن ينسبون البغدادي وتنظيمه إلى التدبير الاستخباراتي الخالص.. هذا التصوّر يستبطن إنكارا لإمكانية بروز ظاهرة كهذه من بين المسلمين، دون "عرّاب" غربيّ، أو استخباراتيّ، أو إسرائيلي، وهو تصوّر يحمل مطابقة ضمنيّة بين الإسلام والمسلمين. فما دام الإسلام دين الرشد والحكمة والرحمة، فلا يمكن، كما في وعي هؤلاء الضمنيّ، أن يفرز المنتسبون إليه ظاهرة تفتقر إلى الرشد والرحمة، وتتوسع في استباحة دم أهل الأرض كلّهم، بما في ذلك المسلمون الذين يكفّر التنظيم طوائف واسعة منهم.
بل ضمّ التنظيم تيارات تفترض الكفر في عوامّ المسلمين في ما يُدعى "دار الكفر الطارئ"، وهو شأن بلادنا كلّها الخارجة عن سيطرة التنظيم، ولذا كان من سياسته استتابة أهالي المناطق التي كان يُسيطر عليها، وإدخال أهلها في الإسلام من جديد، فضلا عن تكفير تيارات مركزيّة فيه لأعيان المنتسبين للجماعات الأخرى التي يخاصمها، وانتهاجها نمطا من
التكفير المتسلسل، بحيث تُكفّر من يتوقفّ في تكفير من تُكفّره، حتّى طالت هذه السلسلة التنظيم نفسه، بالتكفير والاقتتال الداخلي، فأكل بعضُه بعضا!
هذا التصوّر الذي يُطابق بين الإسلام والمسلمين، خطير للغاية، لأنّه أولا يفترض العصمة لا في إجماع الأمّة، وإنّما في آحاد جماعاتها التي ترفع شعارا إسلاميّا وتقاتل عدوّا مشتركا للمسلمين، ويحول دون القدرة النقديّة على محاكمة ما يمكن أن يُظهِره مسلمون من سياسات وخطابات خاطئة، أو مدمّرة، بأن يُنسب مثل ذلك لأعداء المسلمين، ومن ثمّ نعجز عن إدراك مشكلاتنا الداخلية، وعن الردّ المستمرّ على ما يمكن أن يَظهر في صفوفنا من انحرافات وشذوذات، حتّى تتمكن منّا، فتحطّم آمالنا، وتفسد علينا حياتنا.
هذا الإنكار أخذ شكلا مختلفا قبل انهيار "داعش"، فبعض الذين ينسبونه الآن للأجهزة الاستخباراتية، كانوا على العكس من ذلك في ذروة قوّته وصعوده، وبينما أتذكر ذلك فإنني أستحضر عشرات النقاشات التي قرأتها في مواقع التواصل الاجتماعي، وبين الناس في الواقع، بما في ذلك بين شخصيات محترمة، كانت تنفي عن التنظيم ما يصرّح به بلا خجل ولا مواربة، كتوسّعه في التكفير واستباحة دماء المسلمين الذين يُكفّرهم!
كان يكفي، لدى هؤلاء، أن يكون العالم كلّه ضدّه لتبرئته من تهمة التكفير واستباحة الدماء، أو أن يقاتل أعداء الأمّة من مستعمرين أو طغاة أو طوائف تصول بالبغي والعدوان على الأمّة، في ضَرْبٍ من افتراض العصمة فيمن يقاتل أو يجاهد، هذا بالرغم من أن التنظيم هو نفسه الذي صرّح في مرّات كثيرة عن مواقفه التكفيرية من جماعات وشخصيات مسلمة، بالإضافة إلى سياساته القتالية والإدارية وخطاباته الشرعية بالفعل وفي الواقع!
نقاش هؤلاء ذو طبيعة سفسطائيّة، فالمصادر ذاتها التي كانت تبثّ مفاخر التنظيم القتالية، هي نفسها التي تُصرّح بمواقفه، ومعتقداته الشرعيّة، بما في ذلك خطابه التكفيري، فكيف كانوا يأخذون نصف ما في المصدر من مشهديّة قتالية مثيرة للإعجاب، ثم ينفون عن التنظيم ما يقوله عن نفسه في بقية المصدر؟!
بالتأكيد ثمّة أسباب أخرى، بالإضافة للمطابقة الضمنيّة بين الإسلام والجماعات التي تتحرك باسمه، كالانبهار بمشهديّة القوّة، والدخول في حالة غراميّة مع صاحبها تنفي عنه كل كريهة، والرغبة في النكاية بالأعداء المشتركين، دون إدراك أن هذه النكاية التي تستند إلى خطاب تكفيري وسياسات نزقة وطائشة سوف تفضي إلى خدمة الأعداء وتدمير الفرص المتاحة للتغيير في واقع الأمّة المزري، وفي الطريق إلى الدمار فرْضُ شكلٍ جديد من الطغيان، ولكن باسم الإسلام!
بعد مقتل البغدادي، لاحظتُ أنّ هذا الدفاع عن التنظيم، بإنكار طبيعته التكفيرية وسياساته الدمويّة؛ ما زال موجودا وإن أقلّ من قبل، فثمّة من يفترض أن كلّ ما يقال عنه من تشويه الإعلام المعادي له، مع أنّه وبكل وضوح من خطاب التنظيم المعلن، وسياساته المعروفة، التي كان يُصرّح عنها في مصادره.
لا يَنُمّ هذا الإنكار عن جهل فحسب، ولكن عن رفض للحقيقة، وهو لا يختلف جوهريّا من هذه الناحية عمّن ينسب التنظيم بكلّيته للفعل الاستخباراتي. ولا يختلف عن ذلك من يعلم نهج التنظيم التكفيريّ ويُصرّح ببغضه لذلك النهج، ولكنّه يجد في نفسه متّسعا لقبول صاحبه ومحبته، ما دام هذا الخطأ يُقترف محبّة للدين وفي قتال الأعداء! ولستُ أدري كيف يمكن عَدُّ استباحة الدماء المعصومة اختيارا، ولو مرفوضا، لا جريمة لا يمكن التسامح معها، فكيف إذا كان الخطب أعظم من ذلك وأفدح؟!
يعيدنا إلى ذلك، ما كان يقترفه البعض في تسعينيات القرن الماضي، من دفاع عن الجماعة الإسلامية المسلّحة في الجزائر، حيث كان يستند ذلك الدفاع إلى الثقة المطلقة بمن يرفع الشعار الإسلامي، ويقاتل الطغاة. فلا شكّ عند ذلك البعض، والحال هذه، أنّ كلّ ما يجري من فظائع من تدبير
المخابرات المحلّية والفرنسية، وإذا كان هذا في بعضه صحيحا ولا شكّ. وكان بدهيّا أن تستغل الاستخبارات مثل هذه الظواهر أو تسعى إلى صناعتها، فإنّه قد ثبتّ أنّ جزءا أساسيّا من الظاهرة نجم عن انحرافات فكريّة، دوّن شهادته عليها الشخصية الجهادية المعروفة أبو مصعب السوري، في كتابه "مختصر شهادتي على الجهاد في الجزائر".
لا شكّ في أنّ هذه الجماعات عرضة للاختراق، وقد تصطنع المخابرات بعضها، كما أنّ كثيرا من الأعمال التي تقبل تلك الجماعات أن تُنسب لها قد لا تكون من فعلها، هذا بالإضافة إلى عوامل اجتماعية وسياسية كثيرة تفرز مثل هذه الظاهرة، إلا أنّه لا ينبغي حين الاستغراق في البحث في العوامل المتعددة، إغفال العامل الفكري ومصادره، أو الكفّ عن محاكمته ومساءلته، فمواجهة الأفكار جزء أساسي من مواجهة مثل هذه السياسات المدمّرة.