ملاحظات أساسية حول التظاهرات في لبنان

بدت التظاهرات في لبنان مفعمة بالحياة الحيوية الإبداع والانفتاح، ومعبرة عن روح البلد الديمقراطية التعددية المسالمة، والذي حاول الاستبداد العربي تحييده وتدجينه قبل أن يتركه للاحتلال الإيراني الذي اختطف البلد عبر حزب الله، أداته المحلية وذراعه الإقليمية المركزية.

كما قلت هنا سابقاً، لا يمكن الحديث عن لبنان أو أي مستجد وتطور فيه دون أخذ ثلاثة محددات بعين الاعتبار؛ الأول أن البلد محتل من قبل إيران احتلالا ليس ناعما، بل مقنعا وبشعا، وبيروت واحدة من العواصم العربية التي يتبجح المسؤولون الإيرانيون باحتلالها ضمن إمبراطورية الدم والوهم الفارسية؛ التي عاصمتها أيضاً حاضرة عربية محتلة هي بغداد.

وثانياً، أن حزب الله هو أداة إيران المركزية لاحتلال البلد عبر قوته العسكرية وسلاحه، بعد تحويله من مقاومة شعبية إلى جيش متضخم هيمن على البلد كاسراً توازناته ودستوره الجامع..

أما المحدد الثالث فيتمثل بوصول ميشيل عون للرئاسة ضمن صفقة تضمنت تنازله عن روح لبنان، والقبول بهيمنة حزب الله كقناع للاحتلال الإيراني، مقابل السلطة الشكلية، وحصة من كعكة أو جثة البلد مع شركاء آخرين من الطبقة السياسية لا ينازعهم فيها الحزب بشكل جدي، مكتفياً بموارده الهائلة بعدما ضمن السيطرة على القرارات والتوجهات السياسية الأمنية، في ظل عجز تلك الطبقة المترهلة الفاسدة عن إيقافه أو منعه من استغلال لبنان في صراعاته الإقليمية كذراع لإيران وإمبراطوريتها الدموية الوهمية.

 

ظلت الروح الوطنية والقومية حية في لبنان الديمقراطي التعددي الذي ساهم في تأسيس الجامعة العربية، مع أنظمة عربية ديمقراطية

إضافة إلى ما سبق، ثمة محدد ومعطى تاريخي يتمثل بنشأة لبنان الحديث، وتطورات الأحداث فيه في مرحلة ما بعد الاستقلال، حيث تم اقتلاعه من سوريا التاريخية من قبل فرنسا كذراع لها في المنطقة، إضافة إلى تسهيل إقامة إسرائيل عبر إضعاف بلاد الشام نفسها بعد تقسيمها إلى أربع دول. ورغم ذاك، فقد ظلت الروح الوطنية والقومية حية في لبنان الديمقراطي التعددي الذي ساهم في تأسيس الجامعة العربية، مع أنظمة عربية ديمقراطية، ثم التزم باتفاق الهدنة مع إسرائيل، ولم يكن أول دولة عربية توقع اتفاق سلام معها، كما توقع مؤسّسو الدولة العبرية.

غير أن الانقلاب الأم في القاهرة، في تموز/ يوليو 1952، واستنساخه في العواصم والحواضر العربية الكبرى، وطغيان وانتشار الاستبداد ضمن حالة سعار عامة كان مختل مثل معمر القذافي أمينها العام، أثّر سلباً على لبنان والتوازنات فيه، ومنع معالجة ثغرات نظامه البنيوية بشكل سلمي ديمقرطي وتوافقي. ثم كانت كارثة أنظمة الاستبداد التاريخية الكبرى في اتفاق القاهرة عام 1969، وشرعنة تواجد حركة المقاومة الفلسطينية في لبنان، بعدما عجزت أنظمة الاستبداد عن تحرير فلسطين، ملقية العبء على لبنان الصغير وآلاف من المقاومين الفلسطينيين.

الاتفاق لم يحرر فلسطين طبعاً، ولم يكن الفلسطينيون قادرين (رغم روحهم العالية وتضحياتهم الهائلة) على تحقيق ما عجزت عنه دول جيوش كبرى، لكن للأسف فقد عمق الاتفاق أزمات ومآسي البلد، وصولاً إلى اندلاع الحرب الأهلية، وإنهيار سلطة وهيبة الدولة لعقدين تقريباً، إلى حين التوصل إلى اتفاق الطائف بعد تحولات إقليمية ودولية، وجهود هائلة بذلها المبعوث المشترك للجامعة والأمم المتحدة الأخضر الإبراهيمي، بدعم كبير من السعودية الأصلية (ليست سعودية ابن سلمان وتركي آل الشيخ وسعود القحطاني..).

الاتفاق كان جيداً، بل أكثر من ذلك، وغلبت عليه الروح الديمقراطية التعددية التوافقية لكن بدأ الانقلاب عليه صباح اليوم التالي لتوقيعه، من قبل نظام الأسد الأب، عبر اغتيال الرئيس رينيه معوض، ثم العمل على منع تنفيذه كاملاً بشكل أمين ونزيه وديمقراطي، إلا أن حافظ المجرم الموصوف، ولكن المجرّب واللئيم أيضاً، تحاشى كسر الاتفاق أو تحطيم التوازنات العامة في البلد.

بشار الصغير ورث عن والده الإجرام فقط، فلم يفهم أو يستوعب التوازنات، وأصرّ على التمديد لإميل لحود ضارباً عرض الحائط بالاعتراضات من معظم أطراف الساحة السياسية، ثم لجأ إلى اغتيال رئيس الوزراء رفيق الحريري، وغض الطرف عن سعي إيران لتحويل حزب الله إلى جيش؛ كاسراً التوازنات السياسية والطائفية  وموصلاً لبنان إلى حافة الانهيار والاقتتال، كما حصل في 7 أيار/ مايو 2008.

أما اتفاق الدوحة في نفس العام فمثل محاولة أخيرة لعودة التوافق، إلا أنه لم ينجح، خاصة مع إفشال حزب الله (بتحريض إيراني) العودة السعودية لإعادة إحياء اتفاق الطائف، ثم نشره القمصان السود (2011) لإخراج سعد الحريري من الحكومة تمهيداً للانخراط ضد الشعب السوري وثورته العادلة، دفاعاً عن النظام الأسد الابن ثم عن إمبراطورية إيران الفارسية، عبر التمدد إلى ساحات أخرى فى العراق واليمن.

 

فقد دمّر أهم ركيزتين في الاقتصاد اللبناني، وهما السياحة (مع فتح الحزب المعركة السياسية الأمنية والإعلامية ضد الدول الخليجية)، والبنوك (مع استخدام القطاع لتمويل حروبه وتدخلاته الإقليمية)

خلال هذه السنوات أحكم الحزب قبضته تماماً على البلد، وتمكّن من الإتيان بعون الطامع والمهووس بقصر بعبدا والسلطة، والذي تنازل عن كل شعاراته ومبادئه لتحقيق ذلك. ومع تحكم الحزب بالقرارات الداخلية الخارجية الكبرى سياسياً وأمنياً، والانخراط في مشروع إيران الإقليمي الاستعماري، فقد دمّر أهم ركيزتين في الاقتصاد اللبناني، وهما السياحة (مع فتح المعركة السياسية الأمنية والإعلامية ضد الدول الخليجية)، والبنوك (مع استخدام القطاع لتمويل حروبه وتدخلاته الإقليمية).

وأخيراً وصل الوضع إلى الحضيض أو حافة الانهيار مع غض نظر الحزب المتنفذ (أداة الاحتلال الإيراني) عن فساد الطبقة السياسية، بل ومسايرتها لاستمرار هيمنته وإحكام قبضته على البلد.

ومع عودة الحيوية للشارع العربي وانكفاء الثورات المضادة في ليبيا والسودان، ثم الانتصار الديمقراطى المؤزر في تونس، عادت الحيوية والحياة للشارع اللبناني لاستعادة روح الديمقراطية المسالمة والتعددية، والمنفتحة والمساندة لقضايا العرب العادلة في فلسطين وسوريا والسودان ومصر تونس الجزائر والمنطقة.

المطالب الشعبية فى ميادين التحرير اللبنانية واضحة لا لبس فيها: رحيل الطبقة السياسية المترهلة الفاسدة دون استثناء، وليس فقط الإصلاح الاقتصادي كما يطرح المغلوب على أمره سعد الحريرى. وبالضررة، لا إصلاح سياسيا واقتصاديا جديا وفعالا دون تنفيذ أمين ونزيه لاتفاق الطائف، ودون كف يد سلاح حزب الله داخلياً وخارجياً. وحجة تحرير فلسطين خادعة كاذبة وواهية، كونه (أي التحرير) ملقى تاريخياً على عاتق الحواضر الكبرى في دمشق وبغداد وحلب والموصل والقاهرة، الحواضر التي دمرها حزب الله وحلفاؤه واستجدوا الغزاة لاحتلاها، بينما لا يخفى تأييد الحزب القوي الراسخ للانقلاب، الذي اختطف القاهرة بعيداً عن عقلها الجمعي ومسؤولياتها التاريخية في فلسطين والمنطقة.