هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
نحتاج اليوم كأمة مسلمة تتعرض لأقسى أصناف الاحتلال والاستغلال إلى قيم أبي القاسم.
اليوم يتزامن انتخاب تونس لرئيسها مع حلول ذكرى شاعرها الملهم أبي القاسم الشابي، وأنا أدعو من هذا المنبر الكريم الدول العربية ووزراء الثقافة والمجالس الوطنية للثقافة والتراث والنخبة العربية، وبخاصة في تونس موطن الشاعر الأصلي ودولة قطر الرائدة في خدمة الفكر العربي المتميز الرائد إلى إعداد برنامج إحياء ذكرى شاعر إرادة الحياة أبي القاسم الشابي، الذي رددت الجماهير العربية على مدى مراحل مقاومتها للاستعمار وتحريرها حتى أيام ربيع الحرية فيها أبيات قصيدته الخالدة:
إذا الشعب يوما أراد الحياة*** فلا بد أن يستجيب القدر
ولا بد لليل أن ينجلي*** ولا بد للقيد أن ينكسر
ولد الشاعر في مدينة توزر على مشارف الصحراء التونسية، وفي قلب الواحات الرائعة في 24 شباط/ فبراير من سنة 1909 منذ قرن وعقد بالضبط، ووالده هو الشيخ الفاضل القاضي محمد الشابي الذي تلقى تعليمه بالقاهرة في الجامع الأزهر، وعاد إلى تونس فتولى القضاء في عدد من المدن والقرى التونسية إلى وفاته سنة 1929.
للشاعر شقيقان هما محمد الأمين الذي تولى وزارة التربية والتعليم في أول حكومة تونسية بعد الاستقلال وعبدالحميد الشابي. ثم وافاه الأجل رحمه الله يوم 9 تشرين الأول/أكتوبر 1934 وهو في مطلع الشباب الغض لم يتجاوز الخامسة والعشرين. وقد أسعدني الله سبحانه بإتاحة فرص فريدة لي شخصيا لن أنساها للتعمق في أدب الشابي المتمرد، والاطلاع على رسائله وبعض قصائده بخط يده رحمه الله، وهي منحة من رب العالمين حيث كنت في مطلع الشباب أبحث عن نفس ثائر باللغة العربية الرائعة، يتلاءم مع ما يشعر به جيلي في ذلك العهد من نزوع لقيم الإنسانية بالفطرة، فكان الشابي هو الجواب على أسئلتنا الحائرة والمرفأ المثالي لمراكبنا التائهة. ففي المدرسة الثانوية حين كنت يافعا مغرما بالأدب، وأحاول كتابة نصوص شعرية، كان أستاذ الأدب العربي عندنا بالقيروان هو الأديب الشيخ محمد الحليوي رحمة الله عليه، وكان من أقرب الأصدقاء لشاعرنا العبقري، ولد مثله سنة 1909 وتعرف إلى الشابي من خلال النوادي الثقافية التي كان الرفيقان يرتادانها بعاصمة تونس، وترسخت الصداقة بينهما إلى درجة أن الشابي كان يراسل الحليوي أسبوعيا بالبريد، وفي عهد لاحق قام الحليوي بنشر كتاب شديد الأهمية وهو (رسائل الشابي)، الذي يعتبر مرجعا ثريا لاكتشاف نفسية الشاعر وعصره وهمومه.
ومن أفضال الأستاذ الحليوي علي وعلى كل من يأنس بمحبة الأدب في القيروان، سمح لي بزيارة مكتبته الغنية بأمهات التراث وبالرسائل الأصلية بخط أبي القاسم وبحبره البنفسجي الجميل، وكانت بالنسبة لي هذه القراءات دخولا بعد استئذان إلى عالم حميمي خاص لشاعرنا العبقري وحواره التلقائي مع رفيق دربه الوفي محمد الحليوي. أما الفرصة الثانية، فهي اغتنامي للقاءات المنعشة مع شيخنا الكبير وأستاذنا رحمة الله عليه المختار بن محمود في الستينيات من القرن الماضي، حين كنا نرتاد جمعية قدماء الصادقية في 13 نهج دار الجلد بالمدينة العتيقة تونس، وهي أيضا مقر مجلة الفكر المجيدة، فأستمتع بأحاديث الشيخ المختار عن بدايات أبي القاسم الشابي؛ لأن الشيخ المختار كان نشر له أولى قصائده في مجلته (العالم الأدبي)، ويحتفظ بذكريات كنت أنا وأبناء جيلي نشعر أننا مؤتمنون عليها لنرويها إلى الأجيال العربية الصاعدة التي هي مطالبة بصيانة هذا الأدب الخالد.
واليوم نحيي الذكرى 110 سنة لميلاد هذا الشاعر العبقري الذي كان قلبا نابضا بالثورة على الاستعمار والاستكانة والرضا بالدون، من أجل إحياء قيم خصها أبوىالقاسم بالتمجيد في قصائده، وهي قيم الكبرياء والعنفوان ورفض الظلم. تلك القيم العظمى التي نحتاجها اليوم كأمة مسلمة تتعرض لأقسى أصناف الاحتلال والاستغلال والحقد والعنصرية والإذلال. وهي قيم نجدها مبثوثة في الأبيات التي لا يعرفها عموم الناس من نفس قصيدة (إرادة الحياة) حيث يقول الشاعر:
ومن لم يعانقه شوق الحياة*** تبخر في جوها واندثر
فويل لمن لم تشقه الحيا***ة من صفعة العدم المنتصر
إذا ما طمحتُ إلى غاية*** ركبتُ المنى ونسيتُ الحذر
ومن لا يحب صعود الجبال*** يعش أبد الدهر بين الحفر
وقالت لي الأرض لما تساءل***تُ: يا أم هل تكرهين البشر؟
"أبارك في الناس أهل الطموح*** ومن يستلذ ركوب الخطر
وألعن من لا يماشي الزمان*** ويقنع بالعيش بين الحفر
هو الكون حي يحب الحياة*** ويحتقر الميت مهما كبر
فلا الأفق يحضن ميت الطيور*** ولا النحل يلثم ميت الزهر"
عن صحيفة الشرق القطرية