هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
(1)
حسني مبارك فكرة لا تموت، والأصل في هذه الفكرة هو حلم الصعود الطبقي الذي يسكن موظف وضيع، شاهد حياة الكبار عن قرب، فظل يحلم بأن يعتزل الوظيفة وشبح الحروب، ليعيش حياته سفيراً أو "إكسلانس"، ولمّا آتاه الله الملك لم يتنازل عن حلمه، فأصبح رئيسا لمصر بدرجة إكسلانس، يهيم بصحته وطعامه، ويحرص على رياضة الاسكواش، ويجد سعادته في رعاية عائلته والإغداق عليها من مال الدولة، ولا يمانع في إهداء الحكم للمدام والأولاد، بحيث يمكن القول بارتياح إن بطولة حسني مبارك الحقيقية لم تكن على جبهات القتال، ولا في التدريس العسكري، ولا في إدارة شؤون البلاد، لكن بطولته العظيمة كانت كأب وزوج، وتضحياته من أجل العائلة كانت أعظم بكثير من تضحياته على أي جبهة أخرى، حتى أنه خسر منصب الرئاسة كتضحية متواضعة مقابل تحقيق حلم الهانم في توريث الإبن الأصغر.
وها هو مبارك يواصل تضحياته من أجل الأنجال بظهوره كـ"يوتيوبر"، لكي يضمن لعلاء وجمال مكانا في ساحة الصراعات داخل دولة الأشلاء، من خلال فتح مجال للحديث عن ذكرياته كقائد عسكري ورئيس سابق، ولكن بطريقة شعبية من خلال قناة على يوتيوب بعنوان "أرشيفات مبارك".
(2)
في نهايات شهر تموز/ يونيو الماضي شعر علاء مبارك بغيظ شديد، بعدما تم سحب بطاقة دخوله ملاعب الكرة لتشجيع المنتخب الوطني في بطولة الأمم الأفريقية، وانعكس هذا الغيظ في تراشقات إعلامية على السوشيال ميديا؛ كان علاء وشقيقه الأصغر يعبرون من خلالها عن رغبتهم في معاودة الظهور على الساحة. ولم تمنعهما الحملة المضادة من الاستمرار في تحقيق هذه الرغبة، من خلال تدوينات معاكسة للاتجاه وحضور بعض المناسبات الاجتماعية العامة، كأفراح وعزاءات المشاهير، ثم زيارة قبر الجندي المجهول وقبر الرئيس السادات في ذكرى حرب أكتوبر، مع تصوير الزيارة وكأنها لشخصية رسمية.. وأخيرا إعلان علاء عن حديث الرئيس مبارك الخاص في ذكرى حرب أكتوبر، من خلال قناة خاصة على يوتيوب سيتم تدشينها كمنبر لنشر ذكريات الرجل الكبير.
وقد تأخر الحديث بعد 6 أكتوبر بأكثر من أسبوع، ولم ينتبه علاء ووالده للتنويه بأن المناسبة التي خرجت فيها الذكريات كانت أنسب لمبارك؛ لأنه أقرب إلى عيد القوات الجوية التي كان يترأسها في حرب أكتوبر، والتي اختار لها بنفسه يوم 14 تشرين الأول/ أكتوبر كعيد سنوي نظرا لإنجازها العسكري المميز في ذلك اليوم، حسب أقوال مبارك المتكررة عن عظمة الضربة الجوية.
(3)
قبل أن أناقش ما قاله مبارك كـ"يوتيوبر" في أول إطلالة عبر قناته، أحب أن أوضح عدداً من النقاط:
أولها، أنني لست ضد تدشين القناة، على العكس، أعتبرها خطوة رائدة يجب تشجيعها، وحث كل المسؤولين عليها (سابقين وعاملين)، فنحن أحوج ما يكون لنشر المعرفة وتداول المعلومات وتوسيع مجال الشفافية والعرض.
ثانيها، أنني أتفهم تعدد وظائف القناة، ولا أدين رغبة الأسرة المباركية في تدعيم وجودها والدفاع عن مصالحها وفتح منافذ تعبير لها لكسر حالة التعتيم الرسمي عليها، أو حصارها في الظلام بما قد يؤدي إلى النيل منها اقتصاديا وسياسيا خارج إطار القانون، وبعيدا عن علم الرأي العام بالمؤامرات الكيدية المتبادلة.
ثالثا، إن التشجيع والتفهم لا يعني أن نقبل بمضمون القناة وما يتم ترديده فيها بدون مناقشة وتدقيق، وهذا ما يهمني في مقال اليوم.
ولنبدأ:
(4)
تحدث مبارك عن الحرب من خلال ذاكرة مشوشة بلا إعداد مسبق، وبلا تحضير أوراق أو الاستعانة بوثائق، وهو ما يتعارض مع تسمية القناة بالإنجليزية "أرشيفات مبارك". كما أن الإعداد الفني جاء ضعيفاً في التصوير وفي التحضير، برغم وجود مونتاج واضح وتقطيع يفيد بتدخلات ووقفات، وهو وضع يستوجب الإعداد، طالما خرجت طبيعة الفيديو عن العفوية المستمرة التي يفرضها أسلوب "البث المباشر" بلا توقف.
وأتمنى لو يتم تلافي هذا العيب في المرات القادمة، بحيث يمكن التعامل مع ما يكشف عنه مبارك باعتباره وثائق أو شهادة مثبتة، وليس مجرد آراء انطباعية لكهل تجاوز التسعين؛ قد تخونه ذاكرته أو تختلط عليه المعلومات والأسماء عند ذكر أحداث مؤثرة في تاريخ البلاد.
وأخيرا، التنبيه على دراسة المحتوى من الناحية القانونية، حتى لا تقع الأسرة تحت طائلة قوانين الإضرار بالأمن القومي وإفشاء أسرار أو وثائق تخص الدولة أو القوات المسلحة، وهي الجريمة التي دبرها السادات للفريق سعد الشاذلي وتابعها مبارك، حتى حبس قائد نصر أكتوبر بحكم عسكري مثير للجدل.
(5)
اختار مبارك الكلام المرسل والدوران حول الضربة الجوية من دون إضافة جديد، بل أنه استخدم اللغة الحماسية السطحية للعبور فوق مشكلات خطيرة تتعلق بتاريخ حرب أكتوبر.
وأذكر أنني كتبت عن ذلك أثناء حكم مبارك، مردداً تعبيرا فكاهيا عن الضيق من مبالغات الحديث المكذوب عن عظمة الضربة الجوية للتغطية على فساد مبارك ونظامه، وقلت إن أحد الظرفاء قال: "ليت مبارك ضربنا احنا الضربة الجوية وبعدين راح حكم إسرائيل". وقد عاتبني على ذلك المبدع الجميل جلال عامر (رحمة الله عليه) في مقال أوضح فيه أنه صاحب التعبير وليس أحد الظرفاء، خوفا من أن يتم نسبة التعبير لجحا كالعادة، ولما التقينا سالته ضاحكاً: انت بتقول كل يوم عشرين تعبير لطيف، لماذا حرصت على نسبة هذا التعبير لك في مقال كامل؟
وقال المبدع المحبوب بطريقته العفوية الصادقة:
شوف، أنا بكتب تعبيرات كثيرة تعجب الناس، لكن نادرا ما أكتب تعبيرا يعجبني أنا، وهذا التعبير من أجمل المعاني والصياغات التي أعتز بها، عشان كده ما صدقت انك كتبت كده، وقلت أثبتها، وأعيد تأكيد التعبير لنفسي.
(6)
في مذكراته التفصيلية الموثقة استكر الفريق الشاذلي الحديث الدائر عن عظمة الضربة الجوية، وقال: "من المؤسف حقا أن الإعلام المصري وكتاب السلطة يتزلفون إلى الرئيس مبارك ويؤكدون لأبنائنا بأن ضربة الطيران هي السبب الرئيسي للنصر، مع أن الحقيقة المرة هي أن القوات الجوية كانت إحدى نقاط الضعف الرئيسية في قواتنا المسلحة. والاعتراف بهذه الحقيقة لا يعني هجومـا أو نقدا لرئيس الجمهورية الذي كان يشـغل حينئذ منصب قائد القوات الجـوية.
فلم يكن حسني مبارك في ذلك الوقت هو صـاحب الكلمة العليا في اختيار الطائرة أو في تخصيص الميزانية الكافية للقوات الجوية، وبالتالي فإن ضعف قواتنا الجوية هو مسؤولية جماعية. ولكن بالرغم من ضعف قواتنا الجوية (مقارنة بالقوات الجوية الإسرائيلية)، فقد أظهر بعض الطيارين بطولات وشجاعة، ولكن هذه البطولات الفردية كانت تضيع في زخم أي معركة جوية بين طائراتنا وطائرات العدو.
وفي أول دراسة استراتيجية له بعد تعيينه رئيساً للأركان في أيار/ مايو 1971، قال الشاذلي إن قواتنا الجوية ضعيفة جداً ولا تستطيع تقديم أي غطاء جوي للقوات البرية اثناء الحرب في سيناء، كما أنها لا تستطيع أن توجه ضربة جوية مركزة ذات تأثير على الأهداف المهمة في عمق العدو، لذلك كنت حريصا على ألا نزج بها في معارك جوية غير متكافئة، خاصة وأننا خلال السنوات الأربع السابقة على الحرب قمنا ببناء ملاجئ خرسانة لطائراتنا. كما أقمنا شبكة دفاع جوي بالصواريخ حول قواعدنا الجوية، وبذلك أصبح لدينا بعض الضمانات ضد تدمير قواتنا الجوية على الأرض كما حدث في حربي 56 و67.
وأكد الشاذلي في أكثر من موضع في مذكراته أن منظومة الدفاع الجوي هي التي تحملت الدور الأكبر في ردع سلاح الجو الإسرائيلي وإسقاط أكبر عدد من طائراته، وليس ما يشاع من مبالغات عن دور سلاح الطيران في المواجهات المباشرة لتفوق إسرائيل في نوعية الطائرات وفي كفاءة الطيارين. فقد كانت الغالبية العظمى من طيارينا تقل ساعات طيرانهم عن 1000 ساعة طيران، في حين كان متوسط ساعات طيران الإسرائيليين يزيد على 2000 ساعة.
ويوضح الشاذلي أنه قرر استخدام سلاح الجو المصري كسلاح نفسي ضد العدو أكثر منه سلاح عسكري مؤثر، ويبنى الخطة على تجنب المواجهات المباشرة للطائرات، والاهتمام بتوجيه ضربات مفاجئة في أوقات وأماكن لا يتيسر للطائرات الإسرائيلية توقع التواجد، خاصة قصف بعض الوحدات البرية في المناطق القريبة التي تخضع لسيطرة صواريخ سام للدفاع الجوي، والتي أثبتت كفاءتها خلال حرب الاستنزاف منذ سنة 1986.
(7)
في ذكرياته المكررة والمشوشة عن حرب أكتوبر، كرر مبارك عبارة "نكون أو لا نكون"، باعتبار أن الحرب كانت ضرورية للحصول على السلام، وهذه الفكرة المترسبة في عقل مبارك تكشف عن تصور السادات للحرب باعتبارها "حرب تحريك للقضية" وليست "حرب تحرير للأرض المحتلة". وتبدو هذه الفكرة موثقة بتفاصيلها وعباراتها في اجتماع عقده السادات في منزله مع قادة الجيش قبل عام كامل من الحرب يوم 24 تشرين الأول/ أكتوبر 1972، والذي بدأه الرئيس بتقرير تفصيلي عن العلاقة مع السوفييت.
ثم كشف سريعا عن معلومة في غاية الخطورة، قال فيها إن أمريكا طرحت عليه حلا جزئيا يضمن عبور قواته شرق القناة وانسحاب إسرائيل بمساحة محدودة، على أن يخـضع الانسحـاب الكامل لمرحلة أخرى بعد فتح طريق المفاوضـات. وقال السادات في الاجتماع إنه أبلغ بذلك منذ الصيف الماضي (صيف عام 1971) لوزير الحربية حينذاك الفريق، وقال له: يجب أن نحرك القضية عسكريا، لكي ندخل جولة ثانيـة مع إسرائيل بعد الانتخابات الأمريكية (الانتخابات التي فاز فيها نيكسون)، وقال السادات للمجتمعين إنه قال للفريق صادق: هذا قراري النهائي وأنا أبلغكم به ولا أنتظر رأيكم.
وعند هذه النقطة أبدى عدد من قيادات الأسلحة ملاحظاتهم، وحدثت مشادات بين السادات وكل من علي عبد الخبير وعبد القادر حسن وعبد المنعم واصل، ورد السادات بعنف واستخدم تعبير "To be or not to be"، فرد عليها علي عبد الخبير (وكان قائدا للمنطقة المركزية): إذا كنا نقول "نكون أو لا نكون"، فإنه يجب علينا أن نعبئ مواردنا ولا نبدأ الحرب لمجرد فتح الكلام، وعندها سأل نوال السعيد سؤالا واضحاً (وكان مسؤولا عن الاعداد والتموين): هل المقصود هو تحرير الأرض أم تنشيط العمليات لإعطاء الفرصة للحل السياسي؟
وأجاب السادات بوضوح سافر (وإن كان الناس سيحاولون خلط الموقف حتى اليوم): لقد سبق أن قلت ذلك للفريق صادق منذ آب/ أغسطس قبل الماضي إنه لا بد من "كسر وقف إطلاق النار" لنحرك القضية.
وهنا تدخل عبد القادر حسن (رئيس هيئة العمليات ومساعد وزير الحربية) محذرا من الانجرار في هذا الفخ، فقال السادات بغضب: يا عبد القادر دي تاني مرة تغلط فيها.. أنا مسؤول عن استقلال البلد، وأنا أعرف ماذا أعمل. يجب ألا تتدخل في شيء ليس من اختصاصك. أنت رجل عسكري ولست رجـلا سياسيّا!
وتدخل محمود فهمي محاولا تلطيف الجو، فقال: نحن جميعا نؤمن بأن المشكلة لن تحل سلميا، وأن الحرب هي الأسلوب الوحيد لحلها، وإذا كان هناك رأي أو سؤال فإن المقصود منه هو الحرص على مصر ومصلحتها.
فرد عليه السادات بغضب: هل تدافع عن عبد القادر حسن؟ كل واحد لازم يتكلم في حدوده أنا لا أقبل من أحد أن يفهمني واجبي.
(8)
ساد الصمت والوجوم لفترة طويلة من الوقت، حتى عاد السادات للكلام بصوت هادئ مرددا نفس التعبير: إننا اليوم نواجه تحديا صعباً (To be or not to be).
وانتهى الاجتماع بعد منتصف الليل بقليل، وظلت العبارة محفورة في ذاكرة عسكري الظل الذي لم يكن حاضرا في الاجتماع من الأساس، لكن المؤكد أنه سمع التعبير من السادات كثيرا بعد ذلك، وبات يردده من غير أن يفهم الكثير عن خلفيات الحرب التي يظهر الآن للحديث عن ذكرياته فيها، باعتباره "شاهد ما يعرفش حاجة".
[email protected]