هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
كانت المظاهرات الأخيرة في العراق، مناسبة جديدة لملاحظة بينونة الفضاءات المجتمعية الثلاثة في العراق، التي تنطلق من دوافع متباينة في حراكها الشعبي، وفي نظرتها للسلطة في العراق، وكأننا أمام ثلاثة شعوب في بلد واحد، فالأكراد يتظاهرون وحدهم في مناطقهم الكردية، وانطلاقا من مطالبهم وحدهم ضد حكومتهم هم في عاصمتهم أربيل بإقليم كردستان.
وشيعة العراق يتظاهرون في العاصمة وجنوب العراق، انطلاقا من مطالبهم المعيشية وحدهم ضد حكومتهم في بغداد. أما سنة المحافظات المنكوبة، فقد تظاهروا وحدهم أيضا قبل سنوات، لمطالب تتجاوز الخدمات والمعيشة، تصل لحد الانفصال بإقليم بعيدا عن سلطة بغداد، وقبل أن يقمعوا أمنيا، لم تجد مطالبهم أي تعاطف يذكر من باقي العراقيين، شمالا كرديا وجنوبا شيعيا، بل وصموا بالدواعش والإرهاب، وهو ما هيأ الأجواء لفض اعتصاماتهم بقسوة بالغة، وصلت لإعدام أحد المتظاهرين من ذوي الاحتياجات الخاصة، على كرسيه المتحرك في اعتصام الحويجة كركوك.
وبينما تتركز مطالب المتظاهرين في جنوب العراق وشماله احتجاجا على الفساد المتفشي في صفوف الأحزاب الحاكمة، لكنها تبقى تحت سقف الاحتياجات المعيشية والخدمية، ولا تتجاوزه كما الحال مع المتظاهرين في المحافظات السنية المنكوبة، عام 2013، الذين عارضوا ما اعتبروه هوية طائفية لأجهزة الدولة السيادية والأمنية، واعترضوا على ضعف تمثيلهم السياسي، واشتكوا من زج الآلاف من أبنائهم في المعتقلات وتعذيبهم، ساعين لحكومة فيدرالية محلية، تحميهم من جور المركز، وهي مظالم اشتكى منها المجتمع المحلي في محافظات العرب السنة، ولكنها لم تلق تعاطفا شعبيا ولم تدفع أحدا للتظاهر تأييدا لمطالبهم، من جنوب أو شمال العراق.
ومع خطاب عادل عبد المهدي الأخير، ورغم الانتقادات الواسعة المستمرة، فإن حدة المظاهرات من المتوقع ان تتراجع خلال الأسبوع المقبل، مع وعود بالحلول مشفوعة بإشارات تحد، بعثها عبد المهدي الذي رفض الاستقالة، مستعينا بـ«شرعيته الانتخابية» على اعتبار أن المظاهرات لا تسقط حكومة منتخبة من قطاع واسع من العراقيين، بل صناديق الاقتراع وحدها كفيلة بذلك، إن نجح المعارضون لحكمه من توحيد أنفسهم في تيار سياسي منظم.
واليوم، حظيت التظاهرات بتعاطف واسع من معظم العراقيين، لكن أيضا دوافع بعض من أيدوا التظاهرات، تختلف عن دوافع المتظاهرين أنفسهم، فمثلا، كان من أكثر المتحمسين للتظاهرات شخصيات بعثية وقومية وتيارات إسلامية سنية، كل هذه الأطراف تنظر للمظاهرات كمعول هدم للنظام السياسي برمته، والمفارقة أن هذه التيارات البعثية والإسلامية السنية، مرفوضة في نظر معظم المتظاهرين الشيعة، أكثر بمراحل من الأحزاب الحاكمة اليوم، فالحراك الشعبي هو بالنهاية يمثل نزاعا شيعيا داخليا، ضمن مجتمع سرعان ما سيتناسى كل خلافاته الداخلية، ويتوحد أمام اي نزاع مع الآخرين، فلو تحركت المحافظات السنية في تظاهرات ضد الحكومة اليوم، ستخفت المظاهرات الشيعية غدا.
حدة المظاهرات من المتوقع أن تتراجع خلال الأسبوع المقبل، مع وعود بالحلول مشفوعة بإشارات تحد بعثها عبد المهدي الذي رفض الاستقالة.
ولعل عينة من المتظاهرين، توضح الموقف الشيعي العام المتفق ضد «المكونات الأخرى» وإن كان مختلفا داخليا، فأول شهداء المظاهرات، شاب هو محمد حبيب الساعدي، من مدينة الصدر، وهذا مثال على انتماء معظم المتظاهرين للأحياء الشيعية الفقيرة، التي ينشط فيها التيار الصدري، وإن لم يتصدر تنظيم المظاهرات الأخيرة. النقطة الأخرى أن شقيق شهيد الثورة الأول، هو شهيد أيضا في الحشد الشعبي، الذي شكل بفتوى المرجعية الشيعية، وقتل شقيقه قبل عامين في الحضر قرب الموصل، خلال عمليات الحشد لاستعادة الموصل، وهذا مثال على تداخل الطبقة الناقمة على الحكومة مع مؤسسات الدولة الأمنية ومليشيات الأحزاب نفسها، التي تعارضها التظاهرات، بحكم انتماء كل هذه الأطياف المتنازعة داخليا للمناطق الشيعية نفسها. وما يلتبس على البعض هو الخلط بين نمو التيارات المدنية الرافضة للمؤسسة الدينية الشيعية، والتيارات المعادية للعملية السياسية برمتها في العراق المتركزة في المحافظات الوسطى، صحيح أن هناك نموا في التيار المدني الرافض للأحزاب الشيعية الدينية، لكن هذا التيار يبقى أضعف تأثيرا وأقل تمثيلا اجتماعيا من التيارات الشيعية الدينية الكبرى المدعومة بالمراجع الشيعية التقليدية، والنقطة الأهم أنه حتى لو اتسع التيار المدني الشيعي، فإن حظوظ التقائه مع شركاء في محافظات الشمال الكردي والوسط السني، تبقى محدودة في الوقت الراهن، فمثلا، حقق التحالف الانتخابي الأخير بين الصدريين والشيوعيين والتيار المدني، صدى واسعا، كونه دعا للدولة المدنية وتجاوز الطائفية، ورغم فوزه بالمركز الأول في العراق، بأصوات قريبة من أكثر القوى اتهاما بالطائفية وهي قائمة الحشد الشعبي، إلا أن تحالف الصدريين والمدنيين والشيوعيين، حصدوا معظم أصواتهم الانتخابية في المناطق الشيعية، ولم يحصلوا على عضو برلماني واحد من مناطق الشمال الكردية والوسط السنية.
وحتى الشيوعيون في جنوب العراق، يبقون محكومين بالبيئة الثقافية المحلية، يقيمون الشعائر الحسينية، كرمزية للمظلومية الاجتماعية لا الدينية، وهذا أمر تاريخي متجذر حتى في فترات ضعف الأحزاب الدينية بالعراق، منذ أيام الثورة على حكم عبد الكريم قاسم، عندما انقسمت بغداد لأحياء سنية تدعم الثورة، وشيعية تعارضها، وهذا الانصهار الشعبي لحزب غير ديني في بيئة دينية تقليدية، يقول فيه سكرتير عام الحزب الشيوعي العراقي، رائد فهمي، إن «الشيعة والشيوعية تاجد عندهما الفكرة نفسها المتمثلة بمكافحة المستغلين»، ويعلق عليه منتقدوه، بأنه لم يبق على شيوعيي العراق إلا أن يقولوا: «يا عمال العالم صلوا على محمد وآل محمد» .
«القدس العربي»