هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
هذه السطور كانت مقدمة لكتاب "مهندس على الطريق" للأسير البطل عبد الله البرغوثي الذي صدر قبل 3 سنوات.
كما أدهشنا عبد الله البرغوثي وأمتعنا في الجزء الأول من سيرته الذاتية "أمير الظل .. مهندس على الطريق"، ها هو يدخلنا في حالة أكبر من الدهشة والإعجاب في هذا الجزء الثاني من سيرته.
في الجزء الأول، مضينا مع بطل استثنائي استحق في عرف أعدائه أن ينال أعلى حكم؛ ربما في تاريخ البشرية (67 مؤبدا)، فيما استحق في عرفنا نحن المسكونين بهاجس المقاومة؛ مقاومة الظلم أيا كان، ومن أي عدو كان، أن يكون واحدا من الأبطال الذي تُسطّر أسماؤهم بأحرف من نور في تاريخ الشعب الفلسطيني، والأمة العربية والإسلامية، وربما في تاريخ الشرفاء والأحرار على مستوى العالم.
في الجزء الأول، كنا نمضي مع البطل مشدوهين من محطة إلى محطة، وهو يبدأ الرحلة؛ رحلة الحياة؛ أولا في دروبها الوعرة، ومن ثم، وهو الأهم، رحلته في مقارعة العدو الصهيوني، وهي الرحلة التي استحق بناءً عليها ذلك الحكم الهائل. ولولا أن عبد الله البرغوثي كان بطلا استثنائيا لما كان ذلك الحكم، بل لما كان ذلك الإصرار العجيب على رفض ضمِّه، وبعض إخوانه الآخرين إلى صفقة وفاء الأحرار، ولو كان الثمن إفشالها نظرا لما يراه الصهاينة من قدرات استثنائية لديهم.
هذا النموذج من الأبطال ليسوا كثرة في كل الشعوب، وهم في حالتنا، ممن يصنعهم الله على عينه، ليقدموا نماذج للأجيال، وليس لجيل واحد، ولذلك قلنا في المرة الماضية إن كتاب البرغوثي يستحق أن يُدرَّس للأجيال، لا ليأخذوا أساليب البطل، فلكل زمان أدواته، بل ليأخذوا الدرس من عظمة عطائه واستبساله في الإبداع من أجل مقاومة عدوه وبث الوجع في أوصاله.
وفيما ظننا أن سيرة البطولة قد انتهت عند ذلك الحد، وعند تلك اللحظة التي وقع خلالها في أسر عدوه، ها إنه يدهشنا من جديد بسيرة بطولة لا تقل عظمة وإبداعا بعد الاعتقال، وهي سيرة، لا شك سنعثر على مثلها في حالة آخرين لم يكتبوا تجربتهم، وقد يكتبونها إذا تيسر لهم ذلك، لكن إبداع البرغوثي، لم يتوقف عند ترجمة السيرة فعلا مقاوما، ولا عند إبداع الكتابة الرائعة، بل عند إبداع تهريبها إلى خارج السجن أيضا، وتلك حكاية مذهلة أيضا.
من الصعب علينا أن نضع في هذه الكلمات سيرة للسيرة، ولا وصفا لها، لأننا قد نسيء إليها من حيث أردنا أن نحسن، ففيها من التفاصيل ما يجب أن يمرَّ عليه القارئ بعناية، كي يدرك أي بطل اسثتنائي هذا الذي يقف أمام سطوره، ونبض كلماته، بل نبض روحه وقلبه ونور عقله أيضا.
تبدأ هذه السيرة من لحظة الاعتقال، ولا تنتهي إلا مؤخرا، ربما بعد الحرب الأخيرة على قطاع غزة عام 2014، وكانت المفارقة أن يقدم لها بطل استثنائي أيضا. بطل خاض الصهاينة حربا من أجله. إنه البطل الرائع، قائد القسام أحمد الجعبري الذي سيكتب اسمه هو الآخر في سجل الخالدين من الأبطال والشهداء، والذي، كما البرغوثي، لو كانوا في سياق آخر، لكن من حقهم علينا أن يكون لهم فلم سينمائي على شاكلة "بريف هارت"؛ "القلب الشجاع" لميل جيبسون، ذلك الذي جسّد حياة ثائر اسكتلندي ضد الاحتلال البريطاني، والذي استحق جائزة الأوسكار، ولا زال الناس يشاهدونه مرة تلو مرة دون ملل.
يستحق البرغوثي، ويستحق الجعبري، وثلة آخرون مثل هذه الأفلام، ففي سيرتهم من البطولة والدراما ما يجعلها جديرة بأن تُحكى، وأن تترجم صورة وصوتا، وكتبا وروايات لتحفظها الأجيال وتتعلم منها.
يكتب الجعبري مقدمة للبرغوثي، ثم يمضي شهيدا. يكتب شهيد ارتقى إلى ربه، مقدمة لشهيد حي كما يصف نفسه، وبذلك يلتحم الدم بالدم، والعطاء بالعطاء، والبطولة بالبطولة، في مشهد إنساني رائع.
في هذه السيرة، يأخذنا البرغوثي في رحلة مثيرة إلى حكايته مع السجن والسجان، ليس فيما انطوت عليه من بطولة، وإصرار، وإنما أيضا في إصرار البطل على الحياة، بل إصراره على استمرار النضال، معلنا أن نفاد رصاصاته الحقيقية، لن يوقف رصاص الكلمات الذي سيطلقه في وجه العدو دون توقف، من خلال تعبئة الأجيال كي تقوم بدورها في مقارعته.
هنا أيضا، يتجلى إبداع الكلمة/ الطلقة، والفكرة/ الرصاصة التي تدوي في سماء المحتل، فتثير الرعب في مجتمعه، بينما تدوِّي في سمع الأجيال، فتحيلها بركانا يتفجر في وجه الغزاة.
يأخذنا البرغوثي في هذه السيرة إلى رحلته مع السجون، بل مع القبور في واقع الحال، ففي بعضها كان ثمة ما هو أسوأ من القبر بمعناه الدارج، فبعد 181 يوما من العزل والتعذيب، يصمد خلالها البطل صمود الأبطال العظام، ولا يأخذ العدو منه أية كلمة تصبُّ في صالحه، أو تضر بالمقاومين.. بعدها ينتقل إلى عامين آخرين في سجن أسوأ بكثير من القبر. إنه قبو انفرادي، لكنه ليس ككل القبور. إنه يطل على أعين جبانة ملتصلصة على مدار الساعة، تحصي أنفاس البطل عبر كاميرات مثبتة في المكان، وللمرء أن يتخيل كيف يمكن أن يعيش معزولا في جحر لمدة عامين، ويقضي حاجاته الإنسانية وهو مكشوف بالكامل لعيون عدو جبان على مدار الساعة.
هنا تتجلى العظمة الاستثنائية، ففي حين كان القتلة يتمنون اقتناص لحظة ضعف من البطل، يصر هو على أن يرد عليهم بـ"نظرات تحرق بشررها أعين الصهاينة المتلصلصة الخبيثة"، بحسب تعبيره، ويرفض رغم قلة الطعام، وبؤس الحال أن يطلب طعاما للجسد، وكانوا يتمنون ذلك، ولكن لماذا؟ يرد البطل: "كي لا تجوع كرامتي".
هنا، والآن، وفي هذين العامين، وكما في كل المحطات الأخرى، يحضر الإيمان، ويحضر القرآن وتحضر الصلاة، ويحضر اليقين بأن هذه الدنيا ليست سوى محطة عابرة نحو الخلود في مقعد صدق عند مليك مقتدر، بل تحضر شفافية الروح "البارسايكولوجي" بالتعبير الغربي، وحيث يطل البطل بشفافية روح وأحاسيسه الكامنة على أحداث يراها وتكون قد تحققت في الواقع، وفي التفاصيل ما يثير الدهشة.
بتلك الأسلحة الإيمانية كان البطل يقاوم جوع الجسد، ووجعه، وبردا ووحدة وعداد ساعات وأياما تمر بطيئة وثقيلة، في مكان لا يسمع البطل فيه ولا يرى أي أحد.
بعد ذلك ينتقل البطل إلى محطة أخرى. فمن هذه المحطة التي عجز القتلة خلالها أن يقتنصوا منه لحظة ضعف، وواجه فيها عنفهم بكبرياء الأبطال، وشموخ العظماء.. بعدها يتقرر نقله إلى زنزانة فيها عدد من البشر، بعد محطة عابرة يقابل فيها بعضا من إخوانه.
ينقلونه إلى مكان يعتقدون أنه سيصاب على إثره بالبله والجنون. ينقلونه إلى حيث المرضى النفسيون، لكن البطولة تحضر هنا، ومعها الإبداع، فيروّض البطل أولئك المرضى ويحولهم إلى أداة بيده في مواجهة السجان، ويستخدمهم ضده، رغم أنهم ليسوا من أبناء دينه ولا ملته، ويتعلم منهم اللغة العبرية، فأي إبداع هذا؟ في التفاصيل سيعرف القارئ حكاية "سمفونية الرد"، كما سمّاها، والتي صاغها البطل من خلال أولئك المجانين في مواجهة القتلة، ولا حاجة لحرمانه (أي القارئ) من معرفة تفاصيلها.
ثم يمضي من سجن إلى سجن، ومن عزل إلى عزل، وفي كل تلك المحطات يحضر القلم/ البندقية، والكلمة/ الرصاصة التي تواصل الانطلاق بلا توقف، فيكتب عددا من الروايات والكتب التي نشر بعضها وسينشر البعض الآخر تباعا، ولا يتجلى الإبداع في الكتابة، بل في الوسائل التي ابتكرها البطل من أجل تهريب ما سماه "الأحاجي والألغاز" إلى خارج السجن، ولذلك حكايته أيضا.
في هذه الصفحات، نعيش مع بعض تلك الكلمات التي سطرها بإبداع، وهربها للخارج بإبداع، وفيها نعيش جولات من البطولة والعظمة. لا شك عندي أن القارئ سيجد فيها الكثير من الروعة والإلهام والمتعة في آن، مع الكثير من الأمل أيضا، والذي يبقى حيا رغم كل ما عانى البطل وما يعاني.
أتركك أخي القارئ مع هذه الصفحات، كي تدرك أن سجل فلسطين من البطولة لن يتوقف، وأن نهر العطاء ماضٍ بلا توقف؛ بعبد الله البرغوثي وسرب الأبطال في الأسر، وبآخرين في الميدان، ومن ثم بأجيال ستستلهم هذه السيرة في مزيد من الإصرار على المقاومة حتى يأذن الله لفلسطين أن تعود من بحرها إلى نهرها بيضاء من غير دنس الاحتلال، وما ذلك على الله بعزيز.