هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
بعد مائة عام ويزيد على تنفيذ مخطط تقسيم المنطقة العربية الذي وضعته بريطانيا وفرنسا وبتواطؤ روسي وإيطالي، خلال الحرب العالمية الأولى، لا تبدو المنطقة بخير أو في وضع طبيعي مستقر، لا كفضاء جيوسياسي ولا كدول قطرية. بالعكس من ذلك تماما، فرغم محاولات التكيّف مع الواقع الذي فرضه ذلك التقسيم، ومحاولات البناء والتنمية والنهوض، إلا أن المنطقة ظلت تعيش حالة مرضية قلقة لا تكاد تنتهي.
ويبدو هذا الفضاء الموحد تاريخا ودينا وثقافة، لا يكاد يشفى، من تلك الحدود التي تبدو أشبه بالندوب، التي لا تندمل أبدا. بل ولا تكاد تلك الحدود (الندوب) المستقيمة جدا التي رسمها الدبلوماسي البريطاني مارك سايكس والفرنسي فرانسوا جورك بيكو في عام 1916 – تم رسمها بمسطرة- تندمل وتلتئم، حتى تعود متورمة لا تتعافى منها المنطقة أبدا.
الاتفاق الفرنسي البريطاني
أكثر من قرن على الاتفاق الفرنسي البريطاني على تقاسم السلطة والنفوذ على المنطقة، وما طرأ عليها من اتفاقيات أخرى تحولت فيها الولايات المتحدة الأمريكية مع منتصف العشرينيات من القرن الماضي، إلى شريك أساسي للفرنسيين والبريطانيين، قبل أن تتجاوزهما، كفاعل رئيسي، لا تبدو المنطقة قادرة على النهوض والتحول. حتى نكاد نقتنع أننا أمام استحالة جديدة من الاستحالات الكثيرة في هذه المنطقة الموجوعة البتة.. استحالة الديمقراطية واستحالة التأصيل واستحالة النهوض واستحالة الإقلاع واستحالة التنمية، كأننا أمام إمكان يتناسى شروط إمكانه. تبدو ميكانيزمات التحكم والسيطرة والارتهان، ونحن نطوي العقد الثاني من القرن الواحد والعشرين، تتعمّق وتتعزز وتتعقّد، في إطار عولمي وتطور رقمي ذكي وغير مسـبوق.
برزت تيارات سياسية واجتماعية في المنطقة حملت لواء القومية العربية والوحدة، وواجهت هذا الواقع الانقسامي. فسادت فكرة الوحدة والمصير العربي المشترك الفضاء العربي لسنوات طويلة، عبّرت عن نفسها من خلال التجربة الناصرية في مصر منتصف القرن الماضي، وانتشرت خارج مصر، وأيضا من خلال التجارب البعثية في سوريا والعراق، ثم في ليبيا واليمن والجزائر. وقد ساد وعي عربي في تلك الحقبة قوامه ثقافة وحدوية وإيمان بالعمل العربي المشترك والمصير العربي المشترك، انعكس في السياسات العامة لكثير من الأقطار العربية والسياسات التعليمية والثقافية. وساعد توازن القوة في النظام الدولي بين قطبي الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفييتي فرصة للتحرك ومحاولة تخفيف وطأة تداعيات التقسيم الذي يشق المنطقة ويشق عليها، من خلال سياسات التضامن والدعوة للوحدة والعمل العربي المشترك.
غير أن الانكسارات العربية المتتالية، لا سيما بنهاية التجربة الناصرية، ثم مأزق نظامي البعث في سوريا والعراق ومآلات التجربة الليبية، عمّقت هذا الانقسام ورسخته ثقافة قطرية وتنازعا ثنائيا وتجاذبا إقليميا. فظلت كل محاولات النهوض والتقدم مستهدفة بالإضعاف والإرباك وحتى المنع. وبدت الأقطار العربية حالات مأزومة تدور حول ذاتها، لا يكاد فعلها يزيد عن أمر إدارة أزماتها دون حلها. وتعمّقت الحالة القلقة للتجارب العربية في البناء والتنمية. ورغم كل الأسئلة التي طرحت وتكررت على مدى عقود بشأن أسباب الاستبداد والتخلّف، والتي أدرك كثيرها الدور الخارجي، وموازين القوى المختلّة في استمرار هذا الوضع المتردي للعالم العربي فضاء جماعيا، وتجارب قطرية. تحولت الثقافة القطرية الضيّقة إلى جزء من السياسات الرسمية العامة تعليما واقتصادا.
والحقيقة أن هذه الانكسارات وإن كان تفسير عواملها وأسبابها مركبة، إلا أن الدور الخارجي فيها كان أساسيا وحاسما في هذه الانكسارات. إذ بالقدر الذي قد يبدو فيه هذا العامل الخارجي ظاهريا متضائلا، وضامرا بعد مضي قرن على تقسيم المنطقة، إلا أن الفاحص الثاقب للوضع العربي سيدرك مدى سطوة هذا العامل الخارجي، واستمراره في تحديد المصائر في هذه المنطقة، أقطارا أو تجمعات إقليمية.
لا نبالغ إذا قلنا إن اتفاقية سايكس بيكو تحولت مع نهاية الحرب العالمية الأولى ثم الثانية إلى جزء من تفاهمات وترتيبات النظام الدولي. لا يسمح بالمس بهذه الترتيبات أو تغيير قواعدها. ويذكر في هذا الصدد كتاب «النظام العالمي» الصادر في 2014 عن وزير الخارجية الأمريكي المخضرم هنري كيسنجر، أحد أكبر العقول الاستراتيجية في الولايات المتحدة الأمريكية، الذي أوضح أنه يجب التعامل مع أي محاولة لتغيير قواعد اللعبة الدولية أو المس بالحدود القائمة باعتبارها ضربا من الإرهاب، والتعامل مع من يفعل ذلك باعتباره جهة مارقة.
ونحن نطوي قرنا كاملا بعد التقسيم وندخل آخر تبدو المشاريع العربية في النهوض قد فشلت أو تكاد، رغم تعدد خلفياتها الفكرية والثقافية واختلاف مرتكزاتها الحضارية، فلا الرؤية القومية العروبية نجحت في تدارك حالة التخلف والتشرذم، وحققت حلم الوحدة الذي يتباعد مع تقدم الزمن.
حتى استحالت الوحدة من مشروع تلتف حوله النخب والشعوب العربية، إلى حالة سريالية أشبه بالفانتازيا المثيرة للدهشة والغرابة. ولا اليسار والتيارات الاجتماعية حققت عدالة اجتماعية كانت هاجس القوى التقدمية وحلما لشعوب عربية منسحقة تحت وطأة التخلف والفقر وغياب التنمية، بل تحولت القوى اليسارية في المجال العربي إلى هوامش، تعيش عالة على بعض التجارب الخارجية في أمريكا اللاتينية، وتحاول استدعاءها وتمثلها، في وقت تهاوت فيه تجارب اليسار الأوروبي، التي تكاد تتفكك لصالح تيارات يمينية شعبوية على النقيض تماما مع أحلام اليسار وتطلعاتهم.
المشاريع النهضوية
ويبدو الإسلاميون، وهم الحلقة التالية في هذه المشاريع النهضوية، لا يشذون عن مسار ومصائر التيارات السياسية العربية الأخرى، فبعد تجارب هنا وهناك، وجدوا أنفسهم من خلال تجاربهم في السلطة، حكما أو مشاركة، في إطار الدولة الحديثة التي لا تكاد تستوعبهم حتى تلفظهم، لا هم ألفوها وروّضوها ولا هي هضمتهم واستوعبتهم، فظلوا يتحركون في هوامشها.. يشاركون في الحكومات دون أن يكونوا في الحكم. تجربة كانت حلما لوعاء «الفكرة الإسلامية» في كل شيء سياسة وثقافة واجتماعا واقتصادا، فإذا بها تنكشف تجربة رتيبة عادية في سياق الاجتماع السياسي العربي المنضبط لقواعد الترتيبات التقليدية والتوازنات الدولية، خاضعة لترتيباته ومستجيبة لإكراهاته، ومنسجمة مع استحقاقاته.
يواجه العرب اليوم حالة من الانكسار غير المسبوقة، يسابقون الزمن لترميم الكيانات القطرية المأزومة، التي كلما تقدمت انتكست، وكلما مشت عثرت، وكلما نهضت سقطت، وكلما تنفست اختنقت. رغم المحاولات الكثيرة، تبدو الحالة العربية الرسمية لشدة التحامها بالتوازنات الدولية السائدة، منسجمة مع ضعفها وانكساره. بل يبدو التقسيم الذي فرض عليها قبل قرن، يوهنها ويجعلها في حالة تناقض وتصارع وتنازع دائم مع ذاتها. وهي حالة تدفع بها للتآكل. فحتى الكيانات والفضاءات الواسعة والضيقة التي فرضتها «سايكس بيكو»، لم تعد قادرة على الصمود، وهي لم تعد قادرة على التماسك موحدة، اختنقت بنفسها وضعفت بغيرها.
من العراق الذي لا يكاد يستريح تصارعا داخليا وتنازعا أهليا، إلى سوريا المنكسرة تحت رحمة الفاعلين الخارجيين، إلى لبنان القلقة البتة تحت وطأة الطائفية، إلى ما تبقى من فلسطين المحتلة المنقسمة على نفسها بين ضفة وقطاع، إلى مصر التائهة خارج اللعبة، واليمن الذي يستدعي انقساما وتنازعا فيه وعليه، وليبيا الشرق المتحاربة مع ليبيا الغرب بدفع إقليمي يهدد بتفككها، إلى تونس القلقة على وليدها المختنق شرقا وغربا، والجزائر الرائدة افريقيا، زمن التحرير، الباحثة عن طريق المستقبل المتنازع عليه، والمغرب الممزق بين ضفة جنوبية طاردة، وضـفة جـنوبية بـاردة.
مائة عام ويزيد بعد «سايكس بيكو»، تبدو الحالة العربية مفتوحة على مصائر شتى، تماما كما كان وضعها قبيل التقسيم. المآلات الأولية الراهنة تؤشر على أننا انتقلنا من التقسيم إلى التقزيم. حتى نكاد نفتقد لحالة عربية سادت رغم التقسيم، وكان فيها بعض من المناعة وإمكانيات النهوض والإقلاع.
أما اليوم فلا مصر هي مصر ولا الجزائر هي الجزائر ولا سوريا هي سوريا ولا العراق هو العراق ولا السعودية هي السعودية، ولا المغرب هي المغرب، ولا لبنان هو لبنان، ولا تونس هي تونس، ولا ليبيا هي ليبيا، ولا السودان هو السودان ولا غيرهم من الأقطار العربية هي. نحن في حالة شحوب تاريخي.. بسبب مخاض مؤلم لتحديد مصير هذه المنطقة من جديد وتوجيه دفتها. الخطير في هذه اللحظة أن الفاعلين الخارجيين لا تزال يدهم هي الطولى.
في المقابل فإن ما يبعث على التفاؤل هو أن هذه القوى تصل نهاية سطوتها وبداية تراجعها، في مقابل شعوب منطقة متشوقة بقوة للتغيير وبحماس للتحرر وبإصرار للعبور للمستقبل. نحن اليوم نقف على رمال متحركة، والربيع العربي ليس مؤامرة كما يصوره البعض، إنما لحظة انبعاث وحالة مد بعد جزر، قد يتباطأ لكنه ماض حتى لحظته الحاسمة، التي بها تنبسط معادلات جديدة وآفاق أرحب لشعوب تعبت من التقسيم واستبشعت التقزيم.