مقالات مختارة

الرق في أمريكا (3): عملة بلا غطاء.. والحرب الاهلية

ميهرسا بارادران
1300x600
1300x600

تواصل "عربي21" نشر مقالات لـ"نيويورك تايمز"، في إطار مشروع يهدف لفضح "مدى توحش الرأسمالية الأمريكية"، بحسبها، وأطلقت عليه اسم "مشروع 1619".

ويحتفي المشروع بالذكرى السنوية الـ400 لبدء الرق في أمريكا، وتترجم "عربي21" المبادرة التي تتضمن سلسلة مقالات تتناول تاريخ الرق في الولايات المتحدة.

وفي المقال الثالث من هذه السلسلة، تبحث "ميهرسا باراداران" الأبعاد الاقتصادية للنزاع حول الرق بين الشمال والجنوب، قبيل وفي أثناء الحرب الأهلية الأمريكية، في القرن التاسع عشر، وتأثيرات ذلك على المنظومة المالية بالولايات المتحدة.
 
وتاليا نص المقال:

يكاد الدستور يكون ممتلئا بالتنازلات التي تم التوصل إليها بين الشمال والجنوب حول قضية الرق– المجمع الانتخابي، بند الثلاثة أخماس– إلا أن العملة الورقية كانت مثار خلاف كبير بالنسبة للمزارعين، ولذلك تم التخلي عنها تماما.

مثله مثل كثير من الجنوبيين، كان توماس جيفرسون يعتقد بأن العملة الوطنية ستجعل الحكومة الفيدرالية أقوى بكثير مما يجب، وبأنها ستحابي الاقتصاد الشمالي القائم على التجارة وتفضله على اقتصاد زراعة القطن.

ولذلك؛ ظلت الولايات المتحدة لما يقرب من نصف قرن منذ ولادتها دون مصرف وطني ولا عملة موحدة، مما جعل اقتصادها عرضة للأزمات خشية أن يسحب الناس أموالهم من المصارف، ومن ثم عرضة لعدم الاستقرار.

اقرأ أيضا: "عربي21" تنشر سلسلة مقالات تفضح وحشية رأسمالية أمريكا
 
في ذروة الحرب، أدرك لنكولن أنه لن يتمكن من إطعام الجنود دون الحصول على مزيد من المال، ولذلك عمد إلى إصدار عملة وطنية، مسنودة بالثقة التامة وباعتماد وزارة المالية في الولايات المتحدة – ولكن ليس بالذهب (عرفت هذه الأوراق النقدية من باب السخرية بالخلفيات الخضراء، وهو الاسم الذي ظل منذ ذلك الوقت ملتصقا بها).

كانت لدى الجنوب عملة ورقية مرقعة مدعومة بأرصدة البنوك، وهي البنوك نفسها التي ساعدت في تمويل الاقتصاد الجنوبي بأسره، من مزارع القطن إلى العمال المسترقين فيها، وكانت بعض الأوراق النقدية الجنوبية تحمل على ظهورها رسومات تصور العبيد.
 
كانت الحرب حول الرق، بشكل أو بآخر، حربا حول مستقبل الاقتصاد وحول جوهر القيمة. ومن خلال إصداره عملة ورقية بلا غطاء، كان لينكولن يراهن على مطاطية قيمتها.

كانت تلك أول تجربة رسمية للولايات المتحدة مع النقود غير المغطاة، وكان نجاحها باهرا، وحظي النقد بالقبول لدى الدائنين المحليين والدوليين – مثل الدائنين الخاصين في لندن وأمستردام وباريس – وساهم في تمويل وتغذية احتياجات القوات الاتحادية.

وبالمقابل، عزز نجاح الجيش الاتحادي العملة الجديدة، وتعهد لينكولن للنقاد بأن الخطوة ستكون مؤقتة، إلا أن من جاء من بعده من الزعماء حولها إلى دائمة، وكان أولهم فرانكلين روزفلت في أثناء الركود الكبير ثم، بشكل رسمي، ريتشارد نيكسون في عام 1971.
 
بات يسيرا اليوم بفضل التكنولوجيا الحديثة فرض رقابة منتظمة ومستمرة داخل مواقع العمل، خاصة في قطاع الخدمات.

فقد طورت الشركات برامج كمبيوتر لتسجيل كل ما يصدر عن العاملين لديها من ضربة مفتاح في لوحة مفاتيح الكمبيوتر، أو نقرة باستخدام الفأرة الموصولة به، بالإضافة إلى التقاط صور لما على شاشة الحاسوب مرات عديدة في اليوم الواحد.

ويخضع العاملون في عصرنا إلى تشكيلة واسعة من استراتيجيات المراقبة، تتراوح ما بين اختبارات تعاطي المخدرات إلى الرصد عبر كاميرات الفيديو المنتشرة في أماكن العمل إلى التطبيقات، وحتى الأجهزة التي بها مجسات لتسجيل الحرارة والحركة.

تبين من استطلاع أجري في عام 2006 أن ما يزيد عن ثلث الشركات التي توظف قوة عاملة قوامها ألف أو أكثر، لديها أفراد ضمن طاقم الموظفين يكلفون بقراءة رسائل الإيميل التي تصدر عن العاملين فيها. قد تبدو التكنولوجيا المرافقة لمثل هذا النمط من الرقابة داخل موقع العمل عصرية جدا، ولكن الجديد فيها هو التكنولوجيا فقط لا غير.

فالنبض الأساسي الذي يقف من وراء تلك التكنولوجيا كان ذاته المهيمن على مزارع القطن، حيث سعى ملاكها إلى فرض أكبر قدر من الرقابة والتحكم على أبدان العمال المسترقين والمملوكين لهم داخل مواقع العمل.
 
كانت مزارع القطن أول نشاط تجاري كبير في تاريخ أمريكا، وكان أول "أخ كبير" في مواقع العمل يتمثل في شخص المراقب، وكان العنف يتربص من وراء كل خطة ماكرة وكل ضبط دقيق للمنظومة. كان أصحاب المزارع يستخدمون مزيجا من الترغيب والترهيب لاستخلاص أكبر قدر من الجهد من عمالهم المسترقين، وكان بعض العمال يفقدون وعيهم من الضرب وشدة الألم، ثم إذا ما أفاقوا يستفرغون، وبعضهم كان "يرقص" أو "يرجف" مع كل ضربة.

وثّق أحد الشهود ما وقع أمامه ذات يوم في عام 1829 في إحدى مزارع ألاباما، حيث كان المراقب يعاقب النساء اللواتي ارتاب في تقاعسهن عن قطف المحصول بالزج برؤوسهن في سلال القطن، ثم يشق عن ظهورهن وينهال عليهن ضربا. يقول المؤرخ إدوارد بابتيست إن الأمريكيين قبل الحرب الباردة "كانوا يعيشون في اقتصاد تروسه السفلى هي التعذيب والتنكيل".
 
ثمة راحة في نسبة التوحش الكامن في العبودية إلى العنصرية البلهاء. قد نتصور أن الألم الذي كان يصب على العبيد كان ينزل عليهم بشكل عشوائي، يوزعه عليهم مراقب أبيض سيطرت على مشاعره وسلوكه القولبة والنمطية، فهو وإن كان حر الإرادة إلا أنه فقير. لكن الواقع كان غير ذلك.

فكثير من المراقبين كانوا لا يسمح لهم بأن يجلدوا العبيد كما يشاؤون. بل كانت العقوبات تملى من قبل من هم في رأس الهرم من أصحاب النفوذ. لم يكن ذلك ناجما عن سخط فقراء البيض في الجنوب، وإنما عن جشع الزراع الأثرياء من البيض، الذين كانوا يشيرون بأصابعهم فتنزل السياط لتلسع ظهور المسترقين. لم يكن العنف تعسفيا ولا تطوعيا، وإنما كان له منطق، وكان رأسماليا، وكان يشكل جزءا أساسيا من تصميم منظومة مزارع القطن في ذلك الوقت.

اقرأ أيضا: إرث الرق في أمريكا

كتب المسترق السابق هنري واتسون في عام 1848 عن ذلك قائلا: "حيث إن كل فرد يكون قد حدد له عدد الأرطال التي ينبغي أن يقطفها من القطن، فقد كان كل ما ينقص عما حدد له يعوض جلدا بالسياط التي تلسع ظهر العبد المسكين".

ونظرا لأن المراقبين كانوا يرصدون بدقة قدرات كل واحد من العمال المسترقين على القطف، كانوا يحددون لكل واحد من العمال حصته الخاصة به، فإذا ما قصر عن قطف الحصة المخصصة له، فغالبا ما يكون مصيره الجلد. ولكن في الوقت نفسه، قد يسبب له نجاحه في قطف أكثر مما خصص له بؤسا وشقاء في اليوم التالي؛ لأن السيد المالك قد يقرر بناء على ذلك رفع حصته من القطاف.
 
كلما زادت الأرباح تفاقمت معاناة العبيد، ولا أدل على ذلك من أن أسرع الأفراد قطفا للقطن كانوا هم الأكثر تعرضا للجلد بالسياط. ولهذا كانت العقوبات تزيد أو تنقص بناء على ما يطرأ على السوق العالمية من تقلبات. يذكر العبد الآبق جون براون فيما كتبه في عام 1854 أنه "عندما كان السعر في السوق الإنجليزية يرتفع، كان العبيد البؤساء يشعرون مباشرة بأثر ذلك عليهم، إذ يزداد عليهم الضغط لإنتاج المزيد، وحينها لا يكاد السوط يتوقف عن لسع الظهور".

لا تملك الرأسمالية غير المنضبطة احتكار العنف، ولكن في سبيل تيسير السعي لتكوين ثروة شخصية لا حدود لها، وعادة ما يكون ذلك على حساب شخص آخر، فإنها تقايض التزاماتنا الأخلاقية بقيم نقدية.
 
كانت العبودية تضيف إلى العمال البيض ما أطلق عليه دبليو إي بي دوبوا "مكافأة شعبية ونفسية"، تسمح لهم بالتجول بحرية مطلقة والإحساس بأن لهم حق التميز. ولكن حتى هذا الأمر كان يخدم مصلحة المال، إذ كانت العبودية تتسبب في انخفاض أجور العاملين. ففي المدن كما في الأرياف، كان أرباب العمل يجدون أمامهم نبعا مرنا من العمالة التي تتكون من العبيد ومن الأحرار.

وكما هو عليه الحال في الاقتصاد في أيامنا هذه، كان عمال المياومة في عصر الرق يعيشون في العادة في ظروف من الشح وعدم اليقين، وكانت الأعمال التي من المفروض أن تتم في شهور قليلة تستمر مدى الحياة. لم يكن للعمال في حينها حول ولا قوة؛ لأن أرباب العمل كان بإمكانهم الاختيار بين أن يشتروا الناس أو يستأجروهم، أو أن يتعاقدوا مع الخدم لآجال طويلة، وكان بإمكانهم أن يختاروا بين استخدام الصناعيين المتدربين أو استخدام الأطفال والسجناء.
 
لم ينجم عن ذلك فقط انعدام المساواة وزرع الشقاق ما بين العمال أنفسهم، بل كان "كل ما عدا الرق يبدو حرية"، كما كتب المؤرخ الاقتصادي ستانلي إنغرمان. كان البيض يشعرون بسبب ما يشاهدونه من فظاعات ترتكب بحق العبيد بأن ما هم عليه من حال ليس الأسوأ، فكانوا يقبلون عموما بأوضاعهم، وباتت الحرية الأمريكية تعرف بشكل عام على أنها كل ما ناقض العبودية، كانت حرية تفهم ما الذي كانت في مواجهته وليس ما الذي ينبغي أن تكون عليه، وكان نمطا  من الحرية سيئ التغذية، نمطا خسيسا، يبقيك خارج الأغلال ولكن لا يوفر لك لا الخبز ولا المأوى. كانت تلك حرية شكلية.
 
في العقود الأخيرة، جربت أمريكا تحويل اقتصادها نحو الاستثمارات المالية. ففي عام 1980 أبطل الكونغرس إجراءات كان معمولا بها بناء على قانون غلاس ستيغول في عام 1933، الذي سمح للبنوك بأن تندمج وتفرض على زبائنها معدلات فائدة أعلى.

اقرأ أيضا: الرق في أمريكا (2): حدود التنظيم المصرفي

منذ ذلك الحين، والأرباح تجنى بشكل متزايد ليس من خلال التجارة وإنتاج البضائع وتقديم الخدمات وإنما من خلال المضاربات المالية. تم ما بين عام 1980 وعام 2008 تم تحويل ما يزيد عن 6.6 تريليون دولار إلى المؤسسات المالية. وبعد رؤية النجاحات والمبالغات في سوق المال في وال ستريت، بدأت حتى الشركات غير المالية في إيجاد طرق لجني المال من المنتجات والنشاطات المالية.

هل خطر ببالك أن تتساءل لماذا يحرص كل محل تجاري وكل سلسلة فنادق وكل شركة طيران على بيعك بطاقة ائتمان؟ لم ينج جانب من حياتنا اليومية من هذا الغزو المالي، فقد وصل إلى صناديق التقاعد وقروض شراء المنازل وخطوط الاعتماد ومحافظ التوفير لدى الكليات والجامعات، وكما جاء على لسان عالم السياسة روبرت إيتكين، فقد صار الأمريكان الذين لديهم بعض الإمكانيات يتصرفون كما لو كانوا "رعايا مغامرين".
 
بحسب ما تُروى في العادة، بدأت حكاية الصعود المالي الأمريكي إما في عام 1980 بحريق غلاس ستيغول أو في عام 1944 مع قيام منظومة بريتون وودز، أو ربما في عشرينيات القرن الماضي في خضم المضاربات الطائشة. ولكن في واقع الأمر بدأت الحكاية في عصر الرق.
 
خذ بالاعتبار على سبيل المثال واحدة من أشهر الإجراءات المالية وأكثرها شيوعا: القرض العقاري. كان المسترقون يستخدمون كرهانات للقروض العقارية قرونا، قبل أن تبدأ مواصفات القروض العقارية لغرض شراء المساكن في التشكل في وسط أمريكا. في أثناء الحقبة الاستعمارية، عندما لم تكن الأراضي تساوي الكثير ولم تكن المصارف موجودة، كان معظم الإقراض قائما على الممتلكات البشرية.

وفي مطلع القرن الثامن عشر كان العبيد هم الرهانات السائدة في جنوب كارولاينا. ولقد تعرف كثير من الأمريكيين بادئ ذي بدء على مفهوم القرض العقاري من خلال الاتجار بالبشر المسترقين وليس من خلال الاتجار بالعقارات، وكما أخبرني المؤرخ جوشوا روثمان: "مما ساعد في تغذية وتيرة التنمية في أمريكا والرأسمالية (العالمية)، التوسع في مجال القروض العقارية حتى يشمل العبيد".



* نقلا عن صحيفة "نيويورك تايمز" الأمريكية.

* الترجمة خاصة بــ"عربي21".

0
التعليقات (0)