هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
في بلدة بن قردان التونسية، على الحدود مع ليبيا، يمكن أن تتجاور ظاهرتان: إرهاب جهادي وسلفي أعمى يسفر عن 65 قتيلاً، وإضراب عام ضمن احتجاجات شعبية ضدّ البطالة وسوء الأحوال المعيشية تستقطب الآلاف ويدعمها “الاتحاد العام التونسي للشغل”. وهي حال يمكن أن تتكرر في مناطق تونسية شتى، خاصة في أطراف الجنوب الفقير، وعلى مسافات تبتعد أو تقترب من محيط سيدي بوزيد أو المكناسي أو قفصة أو القصرين؛ حيث رموز الكفاح الشعبي التونسي ضد الاستبداد والفساد تمتد إلى عقود سالفة، وأجيال.
خصوصية هذا التجاور، ومصدر الاهتمام البالغ بدلالاته، أنه يجري في بلد بات المختبر الوحيد، وربما الأقصى على هذا النحو أو ذاك، لما استقرّ الآن تحت مسمّى “الربيع العربي”؛ سواء سيقت التسمية عن حقّ، أو استُخدمت على سبيل حقّ من طراز آخر لا يُراد منه إلا الباطل. وفي مناسبة الانتخابات الرئاسية المقبلة، المبكرة عن موعدها بسبب رحيل الرئيس التونسي باجي قايد السبسي، ثمة ظواهر عديدة جديرة بامتزاج الاستبشار بالقلق، ومنطق التطوّر الطبيعي بمخاطر الانفلات العشوائي؛ خاصة وأنّ خطوات نوعية كبرى قد قُطعت على الطريق القويم نحو تلمّس تجربة ديمقراطية وليدة مقبولة، ومعقولة.
نطاق صلاحيات الرئيس التونسي، بموجب الدستور الراهن، لا تتجاوز الدفاع والسياسة الخارجية والوظائف التشريفية؛ الأمر الذي لا يقلل من دور ساكن قصر قرطاج في منعطفات حاسمة، مثل امتناع الرئيس عن إصدار المراسيم اللازمة لسريان مفعول تشريعات أقرّها مجلس نواب الشعب، أو التدخل في قانون الوراثة للمرأة، أو إصدار أمر بنشر الجيش في مواجهة التظاهرات الشعبية. ومع ذلك، أعلنت الهيئة العليا المستقلة للانتخابات أن 97 مرشحاً للانتخابات الرئاسية أودعوا ملفاتهم، مقابل 70 في دورة 2014؛ والكثير من هؤلاء سوف ينسحبون لاحقاً، أو تُبطل ترشيحاتهم لاعتبارات قانونية، بالطبع؛ لكنّ العدد يظلّ كبيراً مع ذلك، وحمّال أسئلة حول الغايات والأجندات.
الثابت، في المقابل، هو مستويات الجدّية بين ترشيح رئيس الوزراء الحالي يوسف الشاهد، أو نائب رئيس “النهضة” الشيخ عبد الفتاح مورو، أو الرئيس الأسبق منصف المرزوقي، أو وزير الدفاع الحالي عبد الكريم الزبيدي؛ وبين مرشح (على ذمّة “الشروق” التونسية) يدعو في برنامجه الرئاسي إلى إغلاق السفارات، ومرشحة تطالب بحقّ المرأة في ارتداء الشورت! كذلك فإنّ الجدير بالتأمل، ربما أكثر من أي تفصيل آخر في هذا الدور الأوّل، هو قرار “النهضة” المفاجئ بترشيح مورو وما تعنيه الخطوة من مغزى في سجلّ الحركة، وربما الإسلام السياسي العربي إجمالاً؛ وما إذا كانت تنوي الذهاب أبعد في الدور الثاني، أم ستكتفي بأداء الواجب ومساندة مرشح آخر مثل الشاهد.
وثابت، كذلك، إدقاع أداء الغالبية الساحقة من أحزاب اليسار التونسي، التي لن يفلح أبسط منظور عقلي في إدراك قصورها عن ملاقات هموم أبناء تونس وهواجسهم؛ سواء تلك الاقتصادية ـ الاجتماعية التي تخصّ العيش الكريم والعمل والتعليم والصحة، أو تلك السياسية ذات الصلة بمكاسب التجربة الديمقراطية وخسائرها، وإرث السبسي و”نداء تونس” على وجه التحديد. هذا إذا وضع المرء جانباً سوريالية انشغالها بشقّ الحناجر هتافاً لنظام استبداد وفساد كالذي يقوده آل الأسد في سوريا، مقابل المطالبة بالديمقراطية في تونس.
وأمّا الثابت الآخر، وليس البتة الأخير، في مختبر “الربيع العربي” هذا فهو إشكالية استمرار النظام القديم، بل إحياء بعض مواضعاته وأخلاقياته وجيوبه، عبر بوّابة كبرى تدعى الفساد. والبنك الدولي يقدّر بأنّ الشركات التي كانت مرتبطة بشبكات نظام بن علي تواصل حصد 21% من أرباح القطاع الخاص، وأنها ليست باقية وتتجذر فقط، بل تتوسع وتنتشر على نحو سرطاني أيضاً. كذلك فإنّ البلاد تواجه عجزاً في الميزانية يقارب الـ6% من الناتج القومي الإجمالي، وسيف صندوق النقد الدولي المسلط يطالب بالمزيد من تخفيض الأجور ورفع الأسعار والضرائب وتعليق الاستثمار الحكومي في البنية التحتية.
الأنظار شاخصة إلى اعتمالات المختبر، إذن، ومثلها الآمال والمخاوف.
(القدس العربي)