هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
الأمر على درجة شديدة من التعقيد ولا يمكن استسهاله؛ فنحن في واقع شديد الصعوبة يبدو الفكاك منه بحاجة إلى عملية جراحية تصل إلى حد البتر، وليس من المبالغة القول، إن كل الخيارات تبدو صعبة إلى الحد الذي نبدو فيه عالقين بلا مخرج.
ليست المرة الأولى التي يجري خلالها الحديث عن وقف الاتفاقيات مع
إسرائيل، فمنذ العام 2015 في اجتماع للمجلس المركزي الذي دعا لتدارس طبيعة
العلاقة الصدامية سياسيا، تم اتخاذ قرار وقف الاتفاقيات، وكان قد سبقه الحديث عن
تقديم أعضاء اللجنة التنفيذية لاستقالاتهم كمؤشر للمزاج السياسي الذي ساد آنذاك في
الطوابق القيادية، وليس من المصادفة أن قرارات إعادة النظر بالعلاقة مع إسرائيل لم
يجر تنفيذها منذ أربعة أعوام، التي تكرر الحديث فيها.
صحيح أن الأمر مختلف هذه المرة، فلم يصدر عن مؤسسات التشريع، بل من
أعلى هيئة تنفيذية بشخص الرئيس، رئيس اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير، ورئيس
السلطة الوطنية، الذي استبد به القهر من السلوك الإسرائيلي وخلفه أو أمامه السلوك
الأمريكي الذي أخرجه عن طوره ذات مرة، ومع ذلك هل من السهل وقف الاتفاقيات مع
إسرائيل، وهو القرار الذي ذهب إليه الرئيس وسط حالة الغضب التي تكاملت بين الشعب
والقادة والأحزاب جميعها؟
المسألة هنا تتعلق ببنية النظام السياسي التي استحدثت خلال ربع
القرن الأخير، أي نظام الحكم الفلسطيني في الداخل، الذي جاء نتاج الاتفاقيات مع
إسرائيل، ومن ثم فإن الحديث عن وقف الاتفاقيات مع بقاء السلطة أو إبقائها يبدو
نوعا من التضارب السياسي، حيث نص اتفاق أوسلو على تشكيل "سلطة
فلسطينية" لحكم الفلسطينيين.
ومن ثمّ، فإن القرار الذي أعلنه الرئيس أبو مازن، إذا ما تم
إلحاقه بتغيير بنية النظام السياسي كدولة تحت الاحتلال قررها الفلسطينيون بمعزل عن
الاتفاقيات، سيكون الأمر قد أسدل الستار على مرحلة جرت فيها أكبر محاولة لإيجاد حل
لأعقد قضية ولكنها لم تفلح، أو البحث في خيار الحل وإلقاء كل شيء في وجه إسرائيل،
وأولها غزة التي شكلت العبء الذي كانت الحاجة بالتخلص منه السبب الأول لاتفاق
أوسلو والاتفاقيات اللاحقة التي يجري العمل على وقفها.
هذا طبعا إذا ما تجاهلنا الرغبة الإسرائيلية المستجدة بعد أن جرت
مياهها نحو اليمينَين القومي والديني، واعتبار أرض الضفة الغربية هي التي دارت
عليها أساطير التوراة، كما يصفها علماء الآثار اليهود مثل إسرائيل فلكنشتاين وزئيف
هرتسوغ، إلى الحد الذي أصبح فيه الحديث عن دولة فلسطينية قلبها الضفة الغربية، نوعا من الصدام مع أيديولوجيا مسلحة بمفاعل ذري تصاهرت مع البيت الأبيض.
عندما كتب بعض الجنرالات عريضة لنتنياهو، قبل أسابيع، يحذرونه فيها
من أن ضم الضفة سيضر بأمن إسرائيل، رد بتغريدة على "تويتر" بأن
"الضفة ميراث الأجداد وليست قضية أمن"، أي إن الأمر يذهب باتجاه التخلص
من السلطة في الضفة، وحل أزمة إسرائيل في غزة، من خلال إيجاد سلطة بها. هذا هو بيت
القصيد ولب المشروع الإسرائيلي، ولكننا هنا نأخذ الالتباس الحاصل فلسطينيا، وهو
الالتباس الذي حال دون القدرة على وقف الاتفاقيات خلال السنوات الماضية، وبعد أن
تكشف أن حل الدولتين قد تبدد، وأن طريق أوسلو لم يمضِ إلى دولة فلسطينية، وأن
إسرائيل لم تعد تريد مفاوضات، ولا أحد في العالم، بما فيه أوروبا، تمكن من إقناعها
بالعودة للمفاوضات. وتجربة وزير الخارجية الأمريكي السابق جون كيري كانت شاهدة
على إنهاء تلك المرحلة، وهذا كان واضحا منذ آذار 2014، أي قبل أكثر من خمس سنوات.
ومنذ تلك اللحظة ونحن نحاول البحث عن خيارات، كان من الواضح أن جميعها مسدودة
أمامنا، ولم يكن من السهل أمام هذا الواقع ترجمة أي من القرارات التي اتخذت، ليس
فقط بسبب إعادة هندسة المجتمع الفلسطيني وفقا للبنية المستحدثة، وليس من السهل
هدمها، بل لأن البنية نفسها مرتبطة بإسرائيل بحيث لا يمكن التكامل فيها، وهذا
موضوع بحاجة إلى نقاش أكبر في دوائر مختلفة.
لكن الواضح أن القرار الذي أعلنه الرئيس يعني في كل الظروف إسدال
الستار على مرحلة من أهم مراحل التاريخ، وأن القيادة الفلسطينية التي بدت حالمة
قبل ما يزيد على ربع قرن، وكانت الصورة الأكثر تعبيرا يوم توقيع الاتفاق في البيت
الأبيض المصحوبة بكل عناصر الإثارة الإعلامية والألوان، قد وصلت إلى قناعة بانكسار
التجربة وانكسار الحلم، وأن السفينة التي انطلقت ذات يوم من شواطئ مضطربة، قد
تكسرت أمام أنواء اليمين العاصفة وصخور الأيديولوجيا الجارحة.
إذا، نحن أمام واقع يبدو في غاية الصعوبة السياسية، وتلك تجربة لم
تشبهها تجربة أخرى في التاريخ لنستطيع أن نستقي من عمومية التجربة الإنسانية
خصوصية الحالة الفلسطينية، لا بالمعنى النظري ولا بالمعنى العملي، وهذا الواقع
المعقد الذي يتحدث عنه الإسرائيليون بأريحية تامة، بأن القيادة الفلسطينية
ستستصعب الذهاب حتى النهاية. فقد قاموا بهندسة كل شيء بما يجعل الخيارات
الإسرائيلية جميعها متاحة، فيما جعلوا الواقع الفلسطيني بالعكس.
إذا، علينا أن نخضع المسألة لدراسة معمقة، أخشى أن تكون اللحظة
التاريخية حتى بالتهديد بحل السلطة قد أفلتت، وأن الإسرائيلي لم يعد يعنيه وقف
الاتفاقيات التي دمرها جميعا، وهو يعرف أنه سيدفع الفلسطينيين يوما للإعلان عن
وقف الاتفاقيات كردة فعل طبيعية على ما يفعله من تدمير للمنازل وسرقة الأراضي
وإغلاق أي حلول، فهي ليست سلطة روابط قرى، بل وريثة حركة وطنية كانت خطتها إقامة
دولة مستقلة وليس حكما ذاتيا تحت الاحتلال. وهنا التصادم الذي وصل إلى ذروته بما قاله
الرئيس.. فما هي التداعيات؟ الأمر ليس بتلك السهولة إن بقيت السلطة قائمة!
عن صحيفة الأيام الفلسطينية