قضايا وآراء

الطغاة مهما فعلوا.. عابرون

غازي دحمان
1300x600
1300x600
في روايتها، "مباريات الجوع"، تصوّر الكاتبة الأمريكية عالما يكاد يشبه العالم العربي بعد صعود الثورات المضادة. ورغم أن الرواية صدرت سنة 2008، أي قبل ظهور الثورات العربية والثورات المضادة لها بسنوات، إلا أنها تكاد تصوّر الواقع العربي بدقّة مذهلة، حيث تتحدث الرواية عن نظام حكم استبدادي يظهر في أمريكا الشمالية ويدمّر البلاد والعباد.

تتحدّث الرواية عن ثورة مقموعة وشعب هزمه حكامه عندما استعملوا القوّة المدمّرة للرد على احتجاجاته، وتصف التنكيل الذي يمارسه المستبدون على شعب منهك ومحطّم، ويبتزونه بلقمة عيشه، ويجبرون أبناءهم على التقاتل فيما بينهم، تحت عنوان المبارزة والبقاء للأفضل، من أجل الحصول على حصص غذائية، ضمن مهرجان سنوي يطلقون عليه "مهرجان الحصاد"، أو ما تسميه الكاتبة" مباريات الجوع"، حيث يتم ترشيح 16 شابا وفتاة يصفّون بعضهم، والناجي الوحيد هو الفائز.

الهدف من وراء كل ذلك، توضحه الكاتبه على لسان بطلتها في القصة، وهو تذكير الشعب بمدى وقوعه تحت رحمة نظام الحكم المستبد، "نأخذ أبناءكم منكم ونجبرهم على قتل بعضهم بعضا أمام اعينكم، وهذا تذكير لكم بمدى ضآلة فرصة نجاح أي ثورة قد تفكرون بها، وإن تجرأتم على رفع إصبعكم سندمركم عن بكرة أبيكم".

تشبه هذه السردية وقائع يوميات الشعب السوري بدرجة كبيرة، حيث لا يكتفي الطاغية بحصار وتجويع وقمع محكوميه، بل يصرّ على أخذ أبنائهم عنوّة لقتال أشقائهم الذين هجّرهم إلى إدلب وأرياف حلب وحماة، في عملية المقصود منها الانتقام منهم، وجعلهم يقتلون بعضهم البعض، هؤلاء الذين طالبوا يوما بالحرية والكرامة في مواجهته، وكأنه يقول لهم: ليس لكم قرار ولا حرية ولا خبز بدون أمري، حتى حياتكم ومماتكم أنا من يقرّره.

لكن حادثة قتل الرئيس المصري محمد مرسي، والإجراءات التي اتبعها طاغية مصر بعد ذلك، من إخراج جنازته، بما يشبه "جنازات العار" تلك التي تحصل في الظلام ولا يشارك بها أحد، ثم تسليط أبواقه في الإعلام لشتم مرسي ونعته بالجاسوسية والإجرام، وتركيب التهم الغرائبية له، واعتقال كل من حزن على مرسي في قريته وقرى محافظته الشرقية، تجعل هذه الواقعة ملتصقة بشكل كبير بسردية "مباريات الجوع"، حيث لا يكتفي الطاغية هنا بقتل من يعتقد أنهم يشكلون خطرا عليه، بل ويسعى إلى تشويه الثورة التي أخرجت هؤلاء، من خلال اتهامها بأنها ثورة جواسيس وقتلة، وأنها غلطة ارتكبها التاريخ، ولن يتم السماح بإعادة هذا الخطأ مرّة أخرى مهما كلّف الأمر.

لا تخفي رسائل الطغاة في سوريا ومصر والسودان نفسها. الهدف يتجاوز قمع الثورات وإخمادها، إلى قتل روح الثورة، بل وصلت إلى حد مطاردة كل من هتف للثورة وطالب بالعدالة والكرامة. فالطاغية لا يستطيع التعايش، في نفس البلاد مع من يعرف أنهم لا يرضون عن حكمه، باعتبار أنهم قنابل قابلة للانفجار في وجهه في كل لحظة، لذا لا بد من إزالة صواعق التفجير هذه من داخل المجتمعات وتحويلها إلى مجرد خردة هامدة. مجتمعات تقتل نفسها بنفسها، وتكفر باللحظة التي فكّرت بالخروج فيها عن جنة نعيم ذل الحاكم واستبداده.

والحال، أن الطاغية يستنزف طاقة بطانته والقوى التي تشتغل تحت إمرته، من خلال جعلهم يدورون في حلقات مفرغة في تتبع صدى صوت ثورات الجماهير ضده، الذي لا يزال يرن في جهات حكمه الأربع، كما يدمّر بطريقه ديناميات المجتمعات التي يحكمها في بحثه عن ثورة وارت نفسها عميقا في نفوس وصدور صناعها، بانتظار اللحظة المناسبة للنهوض، ويعيد المجتمعات إلى لحظة تأسيسها الأولى، مجتمعات فقيرة مجرّدة من كل مكاسب تقنية وعلمية وحضارية حصّلتها بجهود أبنائها عبر صبر عقود طويلة.

لكن دائما كان هناك فارق واضح بين ما يريده ويبتغيه الطغاة، وما تطمح اليه الشعوب، فالشعوب لديها قدرة على المناورة وتضليل الطاغية وحتى إرهاقه، في حين لا تنسى الشعوب أهدافها، حتى لو اضطرت إلى ركنها جانبا في انتظار تغير الظروف والوقائع والمعطيات، وعلى عكس ما يظن الطغاة أنهم خالدون في تاريخ شعوبهم، إلا أنهم ليسوا أكثر من لحظة عابرة في مسيرة الشعوب.
التعليقات (0)