كتاب عربي 21

الانحدار.. (مقالات الحريق-3)

جمال الجمل
1300x600
1300x600
1- في العنوان

قبل أيام شب حريق في رأسي، فأمسكت النار في كلمات المقال وحرقتها جميعاً، لكن المعنى ظل حياً برغم اختلاطه برماد الكلمات..

غريبة فكرة الحريق.. شرارة صغيرة تجد بيئة مناسبة قابلة للاشتعال، فتنتشر النيران بسرعة لتقضي بسهولة على أشياء كثيرة، لكنها كثيرا ما تفشل في القضاء على المعاني، بل غالبا ما تضيء الحرائق ليل الخطايا ودهاليز الغموض والتواطوء، لتكشف عن معان وحكايات فضحتها ألسنة اللهيب..

الحريق الذي شب في رأسي بدأ بشرارة صغيرة في عنوان المقال، فقد كتبت كلمة "السقوط"، لكنني استخدمت هذه الكلمة أكثرة من مرة كعنوان (أو جزء من عنوان) لمقالات سابقة. وبصراحة أردت الهروب من تسلط هذه الكلمة على رأسي؛ لأنها أصبحت العنوان البارز للمرحلة كلها، وحاولت إقناع أفكاري بأن "السقوط" أقرب للتعبير عن المواد والأجسام الصلبة، والأفضل أن أعثر على لفظة أخرى تعبر عن السقوط بمعنى أوسع، يشمل الأخلاق والروح والعقل..

هكذا بدأت الشرارة تكبر وتتحول إلى حريق خارج السيطرة، للدرجة التي عطلتني عن الكتابة لأكثر من ثلاثة أيام، فكرت خلالها في استبدال كلمة السقوط بكلمة "الانهيار"، لكنني رأيتها مادية أكثر، فاستبدلتها بكلمة "الانحدار". وبرغم أنها مادية أكثر وترتبط بانحدار الطرق الجبلية وتستدعى مشاق السير وسمات الصخور، إلا أنني توقفت أمامها طويلاً، ورفضت استبدالها بكلمة "الاندحار" التي راودتني وحاولت إقناعي بأنها التعبير النهائي الصريح عن حالة ما بعد السقوط والانهيار والانحدار والهزيمة الشاملة. فالاندحار هي كلمة الختام في أي صراع وفي أي قصة، وربما لم أحبها بسبب هذه الصراحة الحاسمة اليائسة، لذلك عدت بغير اقتناع كبير لاستخدام كلمة "الانحدار"؛ لأنها أكثر ارتباطا بموضوع هذه المقال.

2- في المتن

مقالات الحريق ليست فقط مقالات معلوماتية عن أحداث أو أشخاص، وليست فقط نصوصا رمزية أحاول من خلالها الهروب من الاشتباك السياسي إلى إسقاطات رمزية بعيدة، وليست فقط حكايات تاريخية وأدبية عن حرائق حفظتها الذاكرة الإنسانية، لكن المقالات نفسها هي الحريق.. هي النار التي تتشابه في كل الحرائق مهما اختلفت المواد والأماكن التي يلفها الحريق. فالمقالات تنمو بنفس طريقة الحريق: شرارة تتحول إلى نيران تحرق الكثير، لكنها تبقى الكثير أيضا، بل وتمنح الناس فرصة جديدة ومأساوية للتحسن وتطوير ما كان.

وكما ألمحت سابقاً، فإن للحريق أضرارا على المباني وأفضالا على المعاني، فالنار تضيء مثل النور، لكن أثر النار يظل أكثر تأثيراً وخلودا من النور، ولذلك سعى ايروستراتوس (الأب الأشهر لمشعلي الحرائق) لتخليد اسمه من خلال إشعال النار في معبد أرتميس، إحدى الأعاجيب السبع في العالم القديم. ولم يفعل "ايروستراتوس" ذلك ليس لسبب ديني أو عقيدي أو جمالي، ولكن لهدف شخصي تسلط عليه واراد أن يحفظ اسمه في التاريخ. وبرغم إعدامه وصدور قانون بإعدام كل من ينطق اسمه في مدينة إفسس، إلا أن هدفه تحقق بعد أن سجل قصته المؤرخ ثيوبومبوس في مخطوطة "الهيلينيات"، وهذا يعني أن أي ساقط أو منحدر يمكن أن يضمن البقاء في كتب التاريخ، ليس فقط لأنه شيد أكبر بناء أو أعرض جسر معلق، ولكن لأنه حرق مدينة أو أعجوبة "أد الدنيا".

3- المقال

في نهاية طريق جبلي منحدر بشدة، يوجد سجن قديم خلف قلعة تاريخية عتيقة، وبرغم خطورة الطريق إلا أن الرجل العجوز كان حريصا على الرحلة الشاقة، ومدعوما بقوة من رغبته في الحصول على إجابة للسؤال المشتعل في رأسه منذ سنوات: لماذا أحرق هذا الرجل الفاضل (السجين الآن) بيوت القرية كلها؟ 

تكررت زيارات الرجل العجوز وابنه للسجين، وفي إحدى الزيارات بدأ السجين يحكي ما خفي من القصة:

كان قساً شاباً محبوبا من سكان قرية "إيجلسفيل"، وذات يوم سقط في غواية فتاة حسناء، وعرفت نساء القرية المنعزلة بالخبر، وسرت النميمة بينهن من شرارة السؤال الأول: وماذا في هذه البنت لكي يتجاوب معها القس الشاب ‏ولا يجده فينا؟ وبدأت المراودة، ولم يمانع القس بل تمادى واستسهل الطريق المنحدر، بعد أن وجد فيه إشباعاً خفياً لرغبات تسكن أعماقه. وكلما مر الوقت زادت سرعة الرجل (الفاضل سابقاً) في الانحدار، بل أصبح مفتونا بالسقوط ويجد فيه لذة وعظمة. ولما ظهرت من بين النساء فلاحة عجوز ساءها أن تترك القس في هذا المنحدر، فقد سعت إلى تنبيهه، ثم تهديده بالفضح، عن طريق إبلاغ زوجها ليتصرف ويخبر بقية رجال القرية بما يحدث وراء جدران العيون. وكانت السيدة حريصة على التنبيه أكثر من الفضح، لرغبتها في استعادة القس لدوره والتوقف عن الانحدار، لكن للانحدار قوانينه ومن بينها "انقلاب المُنحِدر" نتيجة سرعة السقوط التي لا تتناسب مع قدراته. ولهذا ينقلب القس إلى شيطان يعكس الحقائق ويقلب الأدلة ويتهم السيدة بالسقوط، ويلفق الاتهامات الباطلة في قرية جاهلة انتقمت من السيدة الساعية للإصلاح، وانتصرت للمغتصب الملفق المنحدر.

وفي طريق الانحدار وقع نظر القس على خادمة، كانت شابة ومثيرة لكنها كانت مختلفة عن الأخريات؛ لأنها ببساطة لم تكن تسعى إليه، فاستفزه ثباتها وبدأ يراودها، ومع الممانعة تحولت المراودة إلى إعجاب وتمسك ثم حب وملاحقة. وذات يوم أظهرت الخادمة بعض اللين والدلال، وفي سكون الليل الشتوي البارد تسلل إلى غرفتها أسفل المنزل، وغازلها حتى استجابت، لكنه لم يشعر بأي نشوة.. كانت العلاقة باردة ومخيبة للخيالات التي سكنت رأسه، وزادت برودة الليل من شعوره بالتجمد، ودفعه الفشل إلى منحدر الأسئلة الخطرة، وقادته أفكاره إلى خلق علاقة بين الفشل وضحاياه السابقات من النساء، فخرج مندفعا في الليل وبدأ في حرق بيوتهن، لعل النار تقلل من شعوره بالفشل وبرودة الحبيبة، وبرودته المفاجئة، وكلما كرر المحاولة مع الحبيبة أدرك أن خطاياه وفجوره المحموم صار مانعا؛ يحول بينه وبين ممارسة الحب الطبيعي، فيكرر الحرق حتى أحرق معظم القرية، وتم القبض عليه وهو يحمل النار ويصرخ كالمجنون في ليل القرية، وانتهى به المصير سجيناً مع رماد روحه التي احترقت قبل احتراق بيوت القرية.

4- في التفاصيل

هذه قصة "احتراق إيجلسفيل" التي كتبها الأديب الألماني فرانك فيديكند في نهاية القرن الـ19، ونشرت في مطلع القرن العشرين ضمن مجموعة من ثلاث وحدات؛ عبارة عن رواية قصيرة وقصتين قصيرتين. وحملت المجموعة عنواناً غامضاً؛ هو "ماين ها-ها". وكما أحرق عنوان هذا المقال الأفكار في رأسي، احترقت أفكاري بسبب هذا العنوان الذي احترت في ترجمته: هل هو "ضحكتي الساخرة"، أو "منجم الهزل"، أو "لغم الاستهزاء"؟ ولم أتوقف كثيرا عند العنوان البديل الذي يتحدث عن التربية البدنية للبنات، وتقديمهن للبالغين باعتبارهن وجبة رقص ومتعة تحت ستار الاستعراضات الفنية أو ولائم جنس للأغنياء.

مع الانشغال بالمعنى تبين لي أن المترجم الإنجليزي "فيليب ورد" حرص على تضخيم عنوان الترجمة بمهارة مشعل حرائق محترف، حيث وضع شعلته على غلاف الكتاب الأدبي ليشعل حريقه ويرفع لهيبه إلى عنان السماء، فتعبير "mine-haha" يشير إلى انحدار المياه بقوة على صورة شلال يصعب وقف انحداره، وهو المعنى الذي يجسد لنا حالة السقوط التي يصعب علاجها. كما أن التعبير نفسه مستمد من ملحمة غنائية في الفلكلور الأمريكي بعنوان "أغنية هيواتا"، كتبها لونجفيلو في منتصف القرن التاسع عشر. و"mine-haha" في الملحمة هي حبيبة الفارس هيواتا، وهي قصة حب أسطورية ملعونة، تجمع الكثير من الغواية والمتعة التي تنتهي بمصير مأساوي، لذلك ارتبط الاسم بمعنى الشلال والانحدار الذي لا نقدر على إيقافه.

5- ما بعد الرماد

هذه الطريقة في الكتابة ليست وصايا مكتملة يمكن العمل بها أو التمسك بما تطرحه، لكنها إشارات وصيحات إنذار؛ قد تكون غير مفهومة إلا باعتبارها صرخة تحذير، أو صوتا مصاحبا للانحدار على طريقة "ماين هاها"، لذلك اعتبروها "عربون كتابة" ودعوة للتفكير والتأمل، وأترك لكم الآن طريقة التعامل مع الحرائق التي تشعلها شرارات تأملاتكم وأفكاركم الأولى، وأدعوا الله أن تكون نيران أفكاركم.. نيران نضج وصهر ونور وليست نيران تخريب وطمس ودمار.

[email protected]
التعليقات (1)
الصعيدي المصري
الأحد، 26-05-2019 09:38 م
بعد الانقلاب العسكري الدموي في مصر على السلطة الشرعية التي مثلت إرادة الشعب .. انقسم داعموا الانقلاب ممن ( يطلق عليهم ) الإعلاميين والنخب والمثقفين والسياسيين على اختلاف توجهاتهم إلى 3 أقسام .. الأول هو من استمروا على دعمهم لنظام الانقلاب وهؤلاء قد حصلوا ومازالوا على اختلاف مواقعهم على امتيازات معينة من النظام الانقلابي العسكري .. النوع الثاني .. هم من ظنوا بأنفسهم بأنهم على قدر من الموضوعية والشجاعة وأرادوا أن يثبتوا ذلك – لفترة لم تطل – لمتابعيهم ومريديهم .. باعتبار أنهم انتقدوا وعارضوا بل ودعموا الانقلاب على السلطة المنتخبة لأنها حسب ما روجوا له كانت سلطة فاشلة – وهاهم لا يهابون الخروج عن الدائرة الخضراء التي حددها لهم حليفهم السلطان الجديد – فإذا بهم يفاجئون بأن اليوم غير الأمس .. فغيروا جلودهم ومنابرهم إلى برنامج ترفيه واكتشاف مواهب والبحث قي أصل مشكلة شيماء مع هيفاء .. أو برنامج آخر عن عصير الطماطم والأكل الصحي أو برنامج ثالث عن عصير الكتب بطعم أرشميدس و المنفلوطي و نجيب الريحاني وتاريخ الجبرتي .. أو حتى بعيدا عن وجع دماغ قد يتسبب في هلاكهم .. النوع الثالث .. هم بعض الأكاديميين والمثقفين .. ممن استمروا في التنظير لذات القيم والمبادئ التي انقلبوا عليها عمليا .. معتمدين .. ربما على الظن بأن كثير من قرائهم له ذاكرة السمك .. هذه الذاكرة التي تضع برزخا متضادا غير مفهوما لترجمة هذه المبادئ مرة في الواقع العملي الذي مارسه المنظرون - وأخرى على النقيض في صفحات كتب الدرس التي يدرسونها لطلابهم أو ينشروها في مقالاتهم وتحليلاتهم وتفلسفاتهم ..

خبر عاجل