هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
ليلة طويلة عاشتها الخرطوم آخر يوم الاثنين وفجر الثلاثاء. إطلاق نار
كثيف من مجموعة عسكرية نظامية على المواطنين المعتصمين منذ أسابيع وسقوط لستة قتلى
مع أعداد كبرى من الجرحى.
لم
يحتج الأمر إلى ذكاء خارق حتى يشير السودانيون بإصبع الاتهام لمن وقف وراء هذا
العمل الذي أدخل الاعتصام مرحلة خطيرة للغاية تهدد بفضه بقوة الحديد والنار لأن ما
جرى لا يعدو أن يكون بروفة محدودة في هذا الاتجاه لقياس الإمكانية وتقدير ردود
الفعل.
«تجولت
نهارا في كامل المنطقة التي شهدت الاشتباكات.. لا يمكن لبعوضة أن تدخلها دون أن
تمر على القوات النظامية التي تحاصرها من كل الاتجاهات. باختصار الذي حدث هو
محاولة فاشلة لفتح شارع النيل وتضييق مساحة الاعتصام.. ارتكبتها واحدة أو معا
القوات في المنطقة، الجيش و/أو قوة الدعم السريع.. لا ثالث لهما».. هذا ما كتبه
الصحافي السوداني عثمان الميرغني في خضم ما جرى وكثيرون غيره ذهبوا إلى ما ذهب
إليه.
لا
أحد من النشطاء في ساحة الاعتصام، وما كتبوه في مختلف مواقع التواصل الاجتماعي
يشهد على ذلك، صدّق رواية «المندسين»، أو غيرها من مفردات التنصل من مسؤولية ما
جرى، فقد أشار كثيرون إلى أن ما من قوة عسكرية في البلاد يكون لديها ما كان
للمهاجمين من أسلحة ومدرعات دون أن يحدث بينها وبين باقي القوات أي تضارب أو
اشتباك، فقد كان هناك بينها جميعا كل تناغم وتنسيق.
مع
ذلك، لم تجد «قوات الدعم السريع» في بيانها الذي أصدرته فور الأحداث سوى التوجه
إلى السودانيين بالقول إنه «لا يفوت على فطنتكم أن ما جرى اليوم من أحداث مؤسفة في
ساحة الاعتصام، تقف خلفه جهات ومجموعات تتربص بالثورة بعد أن أزعجتها النتائج التي
توصل إليها اليوم (الاثنين) المجلس العسكري وقوى الحرية والتغيير، وهي تعمل جاهدة
على إجهاض أي تقدم في التفاوض من شأنه يخرج البلاد من الأزمة».
لغة
تذكرنا ببيانات الجيش المصري عن وجود «طرف ثالث» قام بما قام به ضد ثوار 25 يناير
في أكثر من مناسبة وموقع. هذا «الطرف الثالث» الذي لم يكشف النقاب عنه إلى يوم
الناس هذا مما يعني أنه لم يكن سوى «الاسم المستعار» لنفس الجهة التي كانت تتحكم
في كل مفاصل الدولة وأجهزتها الأمنية لا أكثر ولا أقل. ومع ذلك، لننتظر قليلا حتى
تنجلي صورة ما جرى فعلا رغم أن الكل يجمع الآن، عدا العسكر طبعا، أنه دبر تدبيرا
ولم يكن فلتانا من جهة غير منضبطة أو متآمرة مندسة.
وإذ
تختبر القيادة العسكرية في السودان خيار القوة فتفشل فيه، سواء كان ذلك جسا للنبض
أو محاولة جادة، وذلك بعد أسابيع من مفاوضات مع قوى الحراك الشعبي اتضح فيها بجلاء
نفَس التسويف والمماطلة، نجد القيادة العسكرية في الجزائر في وضع صعب بعد أن اتضحت
محدودية سياسية مسك العصا من الوسط عبر الإرضاء الجزئي للشارع مع التمسك بمسار
دستوري يمنع السقوط الكامل لرموز النظام ومختلف دوائر المصالح واللوبيات التي كانت
تسنده.
القيادة
العسكرية في الجزائر اليوم تبدو أكثر تماسكا من نظيرتها السودانية ليس فقط لأنه لا
وجود في الجزائر لتنظيمات عسكرية نظامية مختلفة، كما هو الحال في السودان، بل كذلك
لأن محاولات «الاختطاف الإقليمي» أقل ضغطا أو أقل وضوحا على الأقل. ومع ذلك، فإن
هذه القيادة في الجزائر لم تجد بعد الطريقة المثلى للاستجابة لمطالب الحراك المصرّ
على ضرورة التخلص من كل ما له علاقة بنظام بوتفليقة وأساسا في هذه المرحلة رئيس
الجمهورية المؤقت عبد القادر بن صالح ورئيس الحكومة نورالدين بدوي.
الجزائر
لم تدخل في جولات مفاوضات مع الحراك، كما هو الحال في السودان، لأن لا قيادة واضحة
لهذا الحراك من جهة ولأن رئاسة الأركان ممثلة في الفريق أحمد قايد صالح ما تزال
تصر على المسار الدستوري البحت للتغيير من جهة أخرى. وإذا كان لا أحد في الجزائر
يتحدث عن فض المظاهرات بالقوة أو منعها، وهو أمر صعب التحقيق دون حمام دم لا أحد
يريده أو يتمناه، فإن مواصلة هذا الإصرار على تجاهل المطلب الشعبي الأساسي لا يمكن
أن يستمر طويلا دون حسم.
لقد
دقت ساعة الحقيقة في كل من السودان والجزائر ولم يعد هناك أمام العسكر من مجال آخر
للمماطلة، كل على طريقته، كما لم يعد هناك من مجال أمام محاولات ربح الوقت انتظارا
لإنهاك ما يصيب جموع الغاضبين فهو أسلوب ذو صلاحية محدودة.
في
النهاية لابد مما ليس منه بد، إذا ما أرادت الخرطوم والجزائر ألا تجرب ما عرفته
عواصم أخرى ما زالت تجر أذيال الخيبة بسبب خياراتها الحمقاء.
عن صحيفة القدس العربي