هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
(1)
تتغير
الأسماء والشعارات، وربما الأحداث في الجزائر وفي السودان، وقبلهما في تونس ومصر
وليبيا وسوريا واليمن والعراق والبحرين وموريتانيا والصومال، لكن يبقى مشترك كبير
ظاهر، وجامع بين كل هذه البلدان، وهو السلاح.
قد
يكون السلاح نظاميا وسياسيا، فنسميه "القوات المسلحة" أو
"الجيوش"، وقد يكون طائفيا وعقائديا واستخباراتيا فنسميه
"ميليشيا"، أو "تنظيم" أو ما جادت به الظروف ومشيئة القوى
الكبرى من تسميات.
(2)
ما
يعنيني في هذا الملمح، هو أيلولة حصاد الثورات الشعبية في المحيط العربي إلى سيطرة
الجيوش، باعتبارها (الجيوش) هي المرجعية الثابتة للدول، وهذا الملمح يستحق التوقف
والتأمل:
لماذا
يتم تعطيل الدساتير ورميها بالفشل، والإحالة إلى الجيوش باعتبارها المرجعية ونقطة
الاتزان وحصن الأمان للمجتمعات؟
لماذا
تؤدي ثوراتنا إلى خلافة جنرال محل جنرال وفق خدعة الضابط الشرير والضابط الطيب؟
لماذا
فشلت كل هذه الدول الحديثة في تفعيل دساتيرها، واعتماد كتب القواعد كفيصل للحكم في
مراحل الفوضى، بحيث تتحول الجيوش من مرجعية وسلطة حكم إلى "آلة أمن"
و"قوة تحصين" فقط لا غير؟
(3)
ملمح
"الساقية العسكرية" لا يحتاج إلى إثبات، لأن نشرات الأخبار العربية تؤكده
كل ساعة، فنحن أمام قوى عسكرية تحكم وتتحكم انطلاقا من بديهية نرددها جميعا بدون
محاسبة، وهي أن الدساتير فشلت ولا بد من تعطيلها، وبالتالي نذهب إلى ضرورة وضع
دستور جديد، مع ما يفتحه ذلك من نقاشات ممتدة وطموحات وأمنيات منسابة في البال وفي
الخيال، ثم ينتهي الحال إلى مجرد نصوص لا يتم تطبيقها، حتى يعود الخلاف عليها من
جديد، فنسقطها أو نعدلها، ونكرر نفس الأفعال المختلة الناجمة عن حوار بين سجان
يمسك ببندقية مصوبة على رأس سجين، بينما السجين منصرف عن الوضع والموضوعية إلى
أسئلة حقه في الزيارة وساعة الشمس، وهي أسئلة تكرس طبيعة العلاقة ولا تطالب بأكثر
من تحسين شروط الوضعية، ومن هذا القبول بالوضع المختل يساهم الجميع في تغييب سؤال
الحرية... سؤال: لماذا أنا السجين وأنت السجان، مع أنك أنت المخالف للقوانين
وللدساتير التي تشاركنا يوما في كتابتها والتصويت عليها؟
(4)
الإجابة
عن السؤال الغائب، لا تنطلق من عقل السجان ولا تخطر في باله، لأنه يستمدها من
فوهة البندقية التي يحملها، فالبندقية هي التي تعطي الحق لحاملها في تطبيق
"دستور اللحظة"، وهو دستور لا يعترف بميراث التحضر الإنساني ولا بمواثيق
الحريات والحقوق، لأنه ينطلق من فكرة القوة وفقط، وهذه القوة التي تمارسها أنظمتنا
بجلافة إنسانية وسياسية، ليست نقيضة للنظام الدولي الذي يدير العالم، بل أحد
شروطها وأسباب وجودها يكمن في عملها لصالحه، وتمشيا مع مبدأ معلن تقوم عليها
السياسة الأمريكية وهو "القوة تصنع الحق"، وهذا هو سر الدعم الغربي لحكامنا
الفاسدين والمخالفين للدساتير الأمريكية والأوروبية نفسها، فترامب يدعم السيسي كما
دعم رؤساء أمريكا السابقين السادات ومبارك، لتمرير خيانة القرنين.. وأقصد التبعية
المذلة التي تفضي اليوم إلى صفقات العار نصف الخفية/ نصف المعلنة
(5)
إذن
يبدو مستحيلا أن يحصل أي طرف على حقه طالما لا تتوفر لديه قوة، لكن السؤال: هل
يعني ذلك أن تتحارب كل الأطراف وتسعى للحصول على حقوقها بالسلاح؟
هذا
السؤال واحد من الأفخاخ التي زرعتها القوى الأكبر لاصطياد الأطراف الأقل قوة
ومنعها من التوصل لتوازنات، لأن القوة لا تعني السلاح وممارسة القتل وفقط، القوة
مفهوم كبير يتسع للعقيدة وللأخلاق ولخبرات الحياة وللسلاح بالطبع، ومن هنا فإن
ارتفاع صوت السلاح في مرحلة ما، يعني أن الطرف الذي يحمل السلاح تمكن من فرض
أسلوبه في الملعب، بمعنى أن الملاكم يستطيع أن يكسب مباراة في الشطرنج بقبضته وليس
بعقله، والاستمرار في اللعب بهذا الأسلوب لا يعني اختلال الملاكم وفقط، ولكن يعني
أيضا اختلال لاعب الشطرنج الذي يقبل بذلك، فلكل مباراة قواعدها
(6)
طيب..
ماذا يفعل شعب أعزل ثار من أجل الحرية والكرامة والعدل، ولم يجد بعد ذلك إلا
بندقية مصوبة على رأسه؟، ماذا يفعل شعب ربح في مباراة شطرنج، ثم فوجئ بالملاكم
يأمره بالانبطاح والقبول بالقهر والفقر والظلم والهزيمة، بل والتوقيع على عقد
يوافق فيه على الخسارة باعتبارها ضرورة؟
(7)
الإجابة
في رأيي تبدأ من ضرورة الإيمان بانتهاء حقبة "القوة الغاشمة" والتي
يحتكر فيها السلاح السلطة بوصفه "القوة الوحيدة" وهذا يتطلب العمل على
تكريس القواعد الاتفاقية (الدساتير) كقوة إلزام، ومرجعية فوق الجميع وفي مقدمتهم
الجيوش، خاصة وأن التجارب أثبتت فشل الجيوش كمرجعية أمينة لصون المجتمعات، فالجيوش
بحكم تكوينها وتفكيرها وتنظيمها لديها قوانينها الخاصة، وأسلوبها في اتخاذ
القرارات وإصدار الأوامر، وهذا الأسلوب لا يصح أن يعبر السلك الشائك للثكنات،
ليفرض شروطه المحدودة ومهامه النوعية على فئات وظروف أوسع من تكوينه وأكبر من
مفاهيمه
(8)
لكن
كيف يمكن إزاحة الجيوش واعتماد الدساتير كمرجعية؟
الإجابة
العاقلة تعود بنا إلى ممارسة مفهوم "القوة" بتعريفها الأوسع، وهذا يعني
تجنب مواجهة الجيوش بسلاحها، وتجنب رفع السلاح تحت أي ظرف، لأن الغرض ليس إزاحة
الجيوش من الوجود، الغرض هو تفرغها لدورها وإعادتها إلى مكانها الأصيل بما في
صالحها وصالح المجتمع، وهنا يأتي السؤال الذي ندور فيه كمتاهة بوسيدون اللعينة
التي أوقع فيها أوديسيوس: ومن يسد الفراغ الذي يتركه انسحاب الجيوش من مجال الحكم
وساحات الدولة؟
(9)
يقول
العلم: لا يوجد فراغ في العالم، فالفراغ يملأه الهواء الموجود، فإذا انسحبت الجيوش
مما لا يجب أن تتواجد فيه، فسوف يمتلئ الفراغ بما يستحقه المجتمع من قيادات
وخبرات، فإذا كانت رديئة فإن الشعوب قادرة على فرز الأفضل مع الوقت، وبهذا تكون
"المرحلة الانتقالية" فترة من الصبر على "رداءة ممكنة
التحسن"، في حين أن بقاء الجيوش لن يفضي إلى شيء آخر، وبالتالي تظل المجتمعات
تعيد تكرار أزماتها، كما لو أنها تقضي فترة تجنيد أزلية لن تتحرر فيها أبدا من
ضابط أول ما يقوله للمجند: نفذ الأوامر وبعدين اتظلم، وإذا تحدث عن علمه يقول له:
حط شهادتك الجامعية تحت جزمتك، وكرامتك مالهاش لازمة هنا.. انساها في البيت.
هذا
بعض من تفكير وممارسات الجيوش، ولن أزيد أكثر، فأنتم تعرفون البقية.