هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
القطيعة بين الرئيس عبد العزيز بوتفليقة وقائد أركان الجيش، الفريق أحمد قايد صالح، مفاجئة. لكنها باتت مؤكدة وخطيرة على استقرار البلاد.
منذ ما قبل الاستقلال، كان للجزائر دائما مشاكل مع قيادة الأركان. هذه الأخيرة هي التي قادت انقلابا داميا استمر صيفا كاملا في 1962، ودخلت العاصمة بالدبابات لتنتزع الحكم من الحكومة المؤقتة ورئيسها ابن يوسف بن خدة. لا تزال جراح تلك الأيام لم تندمل تماما، ولا زال بعض الجزائريين الذين عاشوها في الولاية التاريخية الرابعة (وسط البلاد والعاصمة)، يتذكرونها بألم ومرارة.
منذ تلك الأحداث المشؤومة تكرست سطوة قيادة الأركان كصانعة رؤساء. وتأكد ذلك أكثر مع محاولة قائدها، العقيد الطاهر الزبيري، الإطاحة بالرئيس بومدين في انقلاب كانون الأول (ديسمبر) 1967 الفاشل، أي بعد ثلاثين شهراً من انقلاب الأخير على الرئيس أحمد بن بلة. كانت تلك ثاني محاولة انقلابية للزبيري كرئيس لهيئة الأركان في خمسة أعوام هي عمر الاستقلال.
رغم أن بوتفليقة كان أحد انقلابيي هيئة الأركان الذين أطاحوا بالحكومة الأولى للجزائر المستقلة، ورغم أنه كان أحد المستهدَفين بمحاولة الزبيري، ويعرف دورها وخطورتها، إلا أنه، بعد 40 سنة، بدا راضيا على «القايد» (كما يحلو للجزائريين تسميته)، عيّنه على رأس هيئة الأركان ووثق فيه 15 عامًا، ردَّ خلالها صالح الثقة بثقة والوفاء بوفاء. حتى في أحلك أيام بوتفليقة، إثر إصابته بجلطة دماغية وتأزم وضعه الصحي، كان «القايد» الدرع الحامي له يمجده في كل الخطابات والمناسبات.
رغم كل الأذى الذي ألحقه هو وعائلته والمنتفعون منه بالجزائر، يُحسب لبوتفليقة أنه سيطر على هيئة الأركان: أزاح رأسها القوي، الفريق محمد العماري في 2004 بعد خلافات حادة بينهما، وروَّض خلَفه قايد صالح سنوات طويلة تفرَّغ خلالها بوتفليقة لتجريف الحياة المدنية والسياسية وتدمير اقتصاد البلد.
لكن شيئا ما انكسر فجأة بين الرجلين، يصعب إصلاحه إلا إذا اتفق الطرفان أو التَهَمَ أحدهما الآخر. لابدَّ أنه شيء خطير، حدث بين الخطاب الأول لـ«القايد» (26 شباط/فبراير في تمنراست) الذي هدد فيه المتظاهرين ضد بوتفليقة ووصف دعواتهم بالمشبوهة (سُحب التهديد من النسخة الرسمية)، والتصريحات اللاحقة، التي أبدى فيها تفهما وليونة تجاه الحراك، وتخلى فيها عن الإشارة إلى «فخامة رئيس الجمهورية القائد الأعلى للقوات المسلحة»، العبارة التي لازمته حيثما حل وتكلم خلال العقدين الماضيين. ثم كان اقتراح تفعيل المادة 102 إعلانا عاما بالطلاق البائن.
الانكسار دفع «القايد» إلى البحث عن رأس بوتفليقة، ودفع بوتفليقة إلى التقرب من معسكر الفريق محمد مدين، الرئيس السابق لجهاز المخابرات الذي أبعده في 2015 بقرار مباغت. العداوات الجديدة فرضت تحالفات جديدة، فأصبحنا نقرأ في الأخبار أن «القايد»، وليس بوتفليقة، هو الذي أطاح بمدين بعد قرابة ربع قرن على رأس المخابرات حوَّلته إلى أسطورة.
اليوم، يبدو بوتفليقة وحيداً بلا سند، إلا من الطيب بلعيز، رئيس المجلس الدستوري. وهذا لا يكفيه عند الحاجة. ويبدو «القايد» بلا سند هو الآخر إلا من قادة الجيش. وهذا لا يكفيه أيضا بالنظر إلى وجود لاعبين آخرين يجب أخذهم في الحسبان. في المقابل هناك الشارع في حالة تمرد على المعسكرين، رافضا لهما معا. وهناك مدين الذي يقف مستمتعا يحاول إعطاء الانطباع بأنه ضابط الإيقاع ورجل الحسم.
لحسن الحظ أن لا أحد من الرجُلين، والمعسكرين، يملك من القوة ما يتيح له الحسم بمفرده. بوتفليقة ضعيف بوضعه الصحي المتدهور وبحصيلته الكارثية بعد 20 عاما في الحكم، وبالطريقة المظلمة التي أدار ـ ولا يزال ـ بها البلاد، وبتحويله الجزائر من جمهورية شعبية إلى مملكة عائلية. و«القايد» مقيّد بالدستور وبمجتمع دولي لا يرضى للجزائر أن تنهار فيُضرب استقراره ومصالحه. «القايد» أيضا ضعيف بورقة الطريق التي قدَّمها فردَّ عليه الشارع بسرعة بأنه تأخر ست سنوات ليقترح نصف حل. وضعيف من حيث أن رئيس المجلس الدستوري لن يستجيب بسهولة لاقتراحه تفعيل المادة 102 (حتى لا يسجل التاريخ على الطيب بلعيز أنه الرجل الذي باع بوتفليقة). وضعيف كذلك بكون الحراك الشعبي يعتبره جزءًا من النظام ويطالب برحيله هو أيضا.
هناك ورقة وحيدة يمتلكها «القايد» قد تغيّر معطيات اللعبة لصالحه، وهي أن يكشف للرأي العام أسماء المشاركين في «الاجتماع السري» المزعوم الذي عُقد في زرالدة السبت، وتفاصيل ما دار فيه، وما هي الخطورة التي يشكلها على البلد. لو فعلها سيسدي خدمة لنفسه ومعسكره وللبلد، وسيضع حدا للإشاعات المجنونة والخيال الخصب في مواقع التواصل الاجتماعي وبعض وسائل الإعلام، فيما يتعلق بذلك الاجتماع المزعوم.
الأسابيع الأربعة المقبلة ستكون مؤرقة، تُذكِّر الجزائريين بالأسبوع الأخير من كانون الثاني (ديسمبر) 1991 والأسابيع الثلاثة التي تلته وأدخلت الجزائر في الجحيم.
لا غرابة إن أقال بوتفليقة «القايد» بقرار رئاسي مفاجئ. ولا غرابة أن يجبر «القايد»، بطرقه الخاصة، المجلس الدستوري على تفعيل الـ102. الجزائر اليوم رهينة حفنة من القادة الكبار وضعوها أمام على كل الاحتمالات، بما في ذلك أسوأها، ما لم يُغلَّب صوت العقل.
عن صحيفة القدس العربي