هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
«بيت الحمقى». «خارج السيطرة». «حافة اليأس». «مسرحية الرعب». «فوضى التأجيل». «هزيمة مذلة ثانية».
هذه بعض العناوين الرئيسية للصحف البريطانية الصادرة، أمس، التي تعكس واقع الحال والتخبط والقلق في ظل فشل السياسيين في التوافق على صيغة اتفاق بشأن كيفية تنفيذ الخروج من عضوية الاتحاد الأوروبي (بريكست)، على الرغم من مرور 994 يوماً على الاستفتاء الذي صوّت فيه البريطانيون بأغلبية بسيطة لصالح مغادرة الاتحاد. مساء أول من أمس، صوّت نواب برلمان وستمنستر للمرة الثانية خلال شهرين ضد الصفقة التي توصلت إليها رئيسة الوزراء تيريزا ماي، بعد مفاوضات عسيرة وطويلة مع الاتحاد الأوروبي، لترتيب خروج منظّم بحلول 29 مارس (آذار) الحالي، وهو التاريخ الذي كان قد تحدد لتفعيل الطلاق وفقاً لقانون الخروج الذي أقره البرلمان بعد استفتاء 2016. وبهذا التصويت أصبحت بريطانيا في وضع لا تُحسد عليه، وأمام خيارات كلها صعبة ومعقدة.
الأسوأ من ذلك أنه حتى اللحظة لا أحد يعرف إلى أين ستتجه الأمور من هنا، أو كيف سيكون شكل العلاقة بين بريطانيا والاتحاد الأوروبي في المرحلة المقبلة. «الغموض» يبقى الكلمة الأكثر تداولاً إزاء ملف «البريكست»، وهي الكلمة التي تثير الرعب في أوساط الاقتصاديين ورجال المال والأعمال الذين يحذرون من سيناريو كارثي كلما طال أمد الضبابية التي أضرَّت بالاقتصاد ودفعت بعض الشركات ورجال الأعمال إلى اتخاذ خطوات لنقل عملياتهم أو جزء منها إلى خارج بريطانيا. المذهل أن الكل يرى خطورة الوضع، لكن الطبقة السياسية في برلمان وستمنستر، وفي حكومة تيريزا ماي تبدو عاجزة تماماً عن التوافق على رؤية موحدة لإخراج البلد من ورطته. فما يدور داخل الحكومة والبرلمان أصبح مثل «حرب عصابات» منهكة، على حد تعبير بعض النواب. الحكومة منقسمة، وحزب المحافظين منقسم أكثر من أي وقت آخر حول «البريكست»، وحزب العمال كذلك منقسم، وإن كان بشكل أقل. كل طرف يتمترس حول موقفه، ويناور لإفشال الطرف الآخر، على أمل أن يتمكن من فرض رؤيته.
كيف وصلت بريطانيا إلى هذا الوضع المزري الذي يقول كثيرون إنه أخطر ما تمرّ به منذ الحرب العالمية الثانية؟
«البريكست» مشكلة من صنع حزب المحافظين بامتياز، وعدم التوصل إلى توافق بشأنها منذ إعلان نتيجة استفتاء يونيو (حزيران) 2016 تتحمله تيريزا ماي مثلما تتحمله بقية الطبقة السياسية الممثلة في البرلمان. فحزب المحافظين ظل في حالة صراع داخلي متواصل منذ أن قاد رئيس وزرائه الراحل إدوارد هيث بريطانيا للانضمام إلى السوق الأوروبية المشتركة في عام 1973.
ومنذ ذلك الحين، فشل كل زعماء حزب المحافظين في توحيد الحزب حول شكل العلاقة مع الاتحاد الأوروبي، إلى أن قرر رئيس الوزراء السابق ديفيد كاميرون أن الطريقة الوحيدة لإنهاء الصراع داخل الحزب والجدل خارجه هي إجراء استفتاء شعبي حول عضوية بريطانيا في الاتحاد، والباقي كما يقولون «تاريخ»، إذ صوت الشعب بغالبية بسيطة لصالح الخروج. تلك النتيجة كانت فشلاً مزدوجاً لكاميرون، إذ إنها جاءت عكس توقعاته بأن غالبية كبيرة ستصوّت لصالح بقاء بريطانيا في عضوية الاتحاد الأوروبي، مثلما أنها لم تنهِ الصراع داخل حزبه بل عمّقته، ونقلته كذلك من دائرة المحافظين إلى الأحزاب الأخرى، وإلى المجتمع البريطاني ككل.
وما فعلته تيريزا ماي بعد ذلك كان محاولة تنفيذ «البريكست» بطريقة لا تؤدي إلى انقسام حزب المحافظين، فأمسكت «العصا من المنتصف» في محاولة لإرضاء كل الأطراف. وكانت النتيجة أنها توصلت لاتفاق «بريكست» لم يُرضِ جناح الخروج المناوئ لأوروبا، كما لم يرضِ جناح البقاء الداعم لأوروبا.
اليوم يبدو واضحاً أن «كعب أخيل» ماي هو أنها تعاملت مع ملف «البريكست» بوصفه ملفاً «حزبياً»، وليس قضية وطنية مصيرية هي الأعقد منذ أكثر من نصف قرن.
وبهزيمتها المهينة، أول من أمس، تلقي ماي بالكرة في ملعب البرلمان، متحدية إياه بأن يتوافق على أي خطة بديلة. وإذا ما لعبت الاعتبارات الحزبية الدور الأكبر خلال الأسبوعين المقبلين، فإن أغلب الظن أن البرلمان قد لا ينجح في التوافق على خطة بديلة، وفي هذه الحالة قد تعود ماي بخطتها التي رُفِضت مرتين، وتطرحها لتصويت ثالث أمام البرلمان، على أمل إخضاع أنصار الخروج للتصويت للخطة، بدلاً من المغامرة بـ«قتل البريكست» عبر استفتاء ثانٍ، أو تأجيل طويل المدى أو خطة «بريكست ناعم».
لكن حتى إذا حدث هذا، فإن معركة «البريكست» لن تكون انتهت. فكل الفوضى العارمة التي تعيشها بريطانيا حالياً هي حول «اتفاق الخروج» فحسب، أما العلاقات المستقبلية مع الاتحاد الأوروبي فهي المعركة المقبلة، التي ستكون الأكثر تعقيداً واستقطاباً بسبب الخلافات الحادة بين حزبي المحافظين والعمال فيما يتعلق بنوع العلاقات المستقبلية مع الكتلة الأوروبية.
ووسط كل هذا ينظر الاتحاد الأوروبي بكثير من القلق لما يجري على المسرح السياسي البريطاني وسط تحذيرات من أنه ما لم تقدم لندن أسباباً موضوعية مقبولة لطلب تمديد الفقرة 50 من معاهدة لشبونة لتأجيل «البريكست»، فإن الاتحاد لن يؤجل «البريكست»، وإذا شعر بأن الخلافات في البرلمان في وستمنستر ستتواصل فقد يطلق «رصاصة الرحمة» على العملية برمتها رغم الخسائر التي ستتكبدها كل الأطراف المعنية. فالمنطق الأوروبي هو أن دول الاتحاد ستتحمل تلك الخسائر، لكنها لن تتحمل المزيد من التأجيل والغموض.
وفي هذه الحالة ستكون بريطانيا مهددة بالخروج القسري، يوم 29 مارس الحالي، مع كل ما يعنيه هذا من تداعيات اقتصادية وسياسية وأمنية خطيرة، وذلك بسبب فشل الطبقة السياسية البريطانية بشكل ذريع في التوصل لتوافق وطني حول «البريكست»، والنتيجة أن البلد كله سيدفع ثمن هذا الفشل.
إذا كان للسياسيين البريطانيين تعلُّم درس من المهانة الوطنية التي عانتها بريطانيا، فهو أن «البريكست» أهم وأخطر من أن يُدار بعقلية حزبية محضة. ربما أدرك البعض هذا الأمر، لذلك بدأ يتردد بشكل ملحوظ حديث في البرلمان عن «بريكست توافقي».
لكن الأوراق التي في يد بريطانيا تتقلص مع تقلص الوقت، والخيارات أمامها تضيق. فبعدما كان مشروع «البريكست» في جوهره مشروع «سيادة» و«استعادة السيطرة»، كما قيل، فإن بريطانيا باتت عملياً اليوم «تحت رحمة» الاتحاد الأوروبي، فهو الذي سيقرر قبول أو رفض تأجيل «البريكست»، وهو الذي سيقرر أيضاً قبول أو رفض أي أفكار بريطانية جديدة توضع على الطاولة. ولذلك لا عجب أن يشتكي كثيرون هنا من أن «البريكست» بكل مطباته جعل بريطانيا العظمى «أضحوكة العالم».
عن جريدة الشرق الأوسط اللندنية