هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
للجمعة الثالثة على التوالي، يتجمّع مئات الآلاف من الجزائريين في شوارع كل المدن، للمطالبة بوضع نقطة نهاية لممارسات السلطة، وسحب الرئيس لترشحه للعهدة الخامسة التي تعني بقاءه في السلطة لربع قرن كامل، في بلد لم يتجاوز زمن استقلاله النصف قرن إلا ببضع سنوات.
ولن يحتاج أي ملاحظ أو متابع للمسيرات الشعبية التي تواصلت هذه الجمعة، لعبقرية وتفكير وتحليل، حتى يعرف بساطة مطالب المتظاهرين، الذين لم يرفعوا شعار محاكمة من عيّشوا أفقر شعب في العالم في أغنى بلاد العالم، ولم يطالبوا أبدا بإسقاط النظام، بل لم يذكروا المتسببين في الأزمة بالاسم، بالرغم من أنهم مثل السلطة، يعرفونهم بصورهم وأسمائهم، وبما تختزنه حساباتهم من عملة صعبة في بنوك أجنبية.
وعندما يقول متظاهر بأنه يحترم تاريخ الرئيس عبد العزيز بوتفليقة، ويطالب بمنحه فرصة استراحة محارب وتقاعد عامل، ويقول آخر بأن حلمه لا يزيد عن كونه يتوق بأن يرى بلاده مثل بلاد المعمورة تعيش السعادة الحقيقية، ويذرف آخر الدموع وهو يتذكر رفاقا له أبحروا إلى غير رجعة بحثا عن كرامة وعزة لم يجدوها في بلدهم، فهذا دليل قاطع على أننا أمام شعب تبنّوه بالقوة منذ الاستقلال، وتبنوا الثورة فعلقوا لأنفسهم ولأهلهم النياشين. والثروة، اجتهدوا على إنفاقها على طريقة “الخمّاسة الاستعمارية”؛ شيء لك وأشياء لي!
لا جدال في أن السلطة الحالية ورثت أخطاء تعود إلى سبعينيات القرن الماضي، عندما وجد الطالب الجامعي نفسه رهينة وجبة الدينار وغرفة الإقامة، في جوّ تعليمي منهار وضعه في المركز الأخير ضمن جامعات المعمورة، ووجد الأولياء أنفسهم رهينة التعليم المجاني، فسلموا أولادهم مثل فئران التجارب لحقائب وزارية شرّقتهم تارة، وغرّبتهم في غالب الأحيان، واكتشف الجزائري في خريف عمره، بأنه عاش للسكن والعمل، ولا لشيء آخر، وظلت السلطة تمنّ عليه وتذكره في كل ثانية من عُمره بأنها وحدها في العالم من تقدم السكن والعلاج والتعليم بالمجان، ووحدها من تقدم مناصب العمل من دون أن تجبر الناس على العمل، فعشنا شعارات الثورة الزراعية والصناعية والعمل والصرامة لضمان المستقبل والعزة والكرامة، واكتشفنا مع مرور الوقت، بأن لا زراعة ولا صناعة ولا عمل ولا صرامة ولا مستقبل ولا عزة ولا كرامة.
لا يجب أن تواجه السلطة تواضع الناس بتكبّر منها، وبساطتهم بمزيد من العُقد، فلا شيء أسهل من قراءة رسالة الشعب، فمطالبه لا تستوجب عصا موسى، وإنما أمانته ووفاءه بالوعود، ولا خاتم سليمان وإنما حسن قيادته ومحاورته للناس وحتى للحيوانات من طير ونمل. وستكون الجزائر في حالة خروجها من محنتها الحالية بسلام، قد ضربت للعالم مثالا رائعا في التغيير بالثورة السلمية، بعد أن ضربت منذ سبعة عقود مثالا رائعا في التغيير بالثورة المسلحة.
عن صحيفة الشروق الجزائرية