مقالات مختارة

رسالة إلى بوتفليقة: لماذا أوصلت نفسك إلى كل هذا؟

توفيق رباحي
1300x600
1300x600

كنتُ لا أكاد أفقه شيئا في الدنيا عندما توفيَّ الرئيس هواري بومدين. اكتشفتُ حجم المصيبة في والدي ممسكا رأسه بين يديه ونحن متسمّرون أمام جهاز تلفاز كان ينقل مراسم تشييع الفقيد في مقبرة «العالية» التي تبعد كيلومترات معدودة عن بيتنا. كان والدي يذرف دموعا وأنت تلقي الخطاب التأبيني مرتديا معطفا داكن اللون ونظارات شمسية موغلة في لونها الأسود. كنت في كامل أناقتك. بدا لي والدي مخضوضا بكلماتك أكثر من تأثره بوفاة بومدين. لن أنسى ذلك الخطاب. فُتنت بك وبقدرتك الخطابية ولغتك الجميلة (اكتشفت بعد أكثر من 20 سنة أنها أقل من عادية)، فحُفر اسمك وصورتك في ذهني.

بعدها اختفيتَ، من «رادر» اهتمامات الفتى الذي كنتُه. ثم رأيتك في «قصر الأمم» بنادي الصنوبر أثناء مؤتمر لكوادر جبهة التحرير الوطني في النصف الثاني من 1989 وأنا في أسابيعي الأولى في مهنة الصحافة. يومها ألقيتَ كلمة بلغة فصيحة (مقارنة ببقية الحضور ولغتهم العربية المهشمة) تطلب فيها العدالة والإنصاف. وختمتها بالقول: «إرحمونا، فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان». أبهرْتَني مرة أخرى. عدتَ بي إلى «العالية» وخطابك المحفور في ذاكرتي.

في إحدى ردهات «قصر الأمم» تحلّق عدد محدود من الصحافيين، كنت أحدهم، حول العقيد أحمد ابن شريف، قائد الدرك ورفيقك في حكومات بومدين. حدَّثنا عن الكثير من الأشياء في السياسة وعن القادة والمسؤولين، بلا تحفظ وبعفوية عجيبة. ثم ذكر اسمك. قال إنك كنت ضحية مطاردة ظالمة بعد وفاة بومدين. سرد علينا واقعة طردك من فيلا حيّ الأبيار فزارته (ابن شريف) والدتك تبكي وتتوسله أن يفعل شيئا مع الرئيس الشاذلي، وفق كلامه. صدّقتُ كلام ابن شريف عنك أكثر من كلامه عن نفسه، رغم أن قصتيكما، بعد وفاة بومدين، متشابهتان. ازداد انبهاري بك، وتراجعت رهبة العقيد في نظري لأنه كان يتكلم بلا مسؤولية.

ثم اختفيتَ، من رادارات اهتماماتي على الأقل، ليظهر اسمك ـ لا شكلك ـ في 1994 ويشيع أن الزمرة الحاكمة تفاوضك على منصب الرئيس وسط وديان من الدماء. شاع آنذاك أنك مفاوض عنيد رفض التنازل عن أيّ من شروطه ولو ضحى بكرسي الرئاسة. كان ثمن عنادك ذاك خمس سنوات أخرى من الانتظار. لا أعرف لماذا بدأ افتتاني بك يتراجع. ربما من خيبة أمل أنك رضيت لنفسك أن تكون رجل العسكر.

ثم وصلنا إلى 1999. الزمرة الحاكمة نفسها تعود للتفاوض معك مجددا على كرسي الرئاسة، فانفقتما في ظروف وبشروط تعلمها أنت وهم. لا أحد غيركم يعرف حول ماذا قايضتهم وقايضوك. وبينما كان كل العالم يعرف أنك رجل العسكر، كنت أنت تكابر وتزعم غير ذلك. في تلك السنة انتهى افتتاني بك، لأنني لم أعد أجد فيك ما يميزك، ولأنني شعرت (مخطئا؟) بأنك قدّمت حساباتك الشخصية على قلقك على الجزائر.

بدأتَ فترتك الرئاسية الأولى بطاقةٍ تُحرِّك الجبال. وبثقة لا شيء يفصلها عن الغرور. سحرتَ الجزائريين والجزائريات (لم أكن منهم). أبكيتهم. أضحكتهم. قليلون منهم شعروا، أو توقعوا، آنذاك أنك لم تُشفَ بعدُ مما بعد وفاة بومدين، وأنك عازم على تصفية حساباتك مع التاريخ.

وبدأ التدحرج. انتهاك للدستور بلا رحمة. أصبحت أنت الدولة. كل شيء «بمبادرة منك» ورعايتك وتوجيهك وحكمتك وعظمتك ونباهتك وفطنتك وحنكتك. لا أحد ولا شيء يتحرك من دونك. كبار المسؤولين بلا قيمة، مذعورون منك. يكرمون بوستراتك ويمنحونها الميداليات والأوسمة. كنت الحاضر الغائب. وبعد عشرين سنة خرجتْ كل مدن البلاد ضدك. وأحرق جزائريون صورك في الشارع بينما آخرون يهللون. بعضهم كانوا رضّعا وأجنّة عندما استلمتَ الرئاسة في 1999. لم يسبق للجزائريين، أو فئة منهم، أن تصرفوا هكذا حيال رئيسهم: وثقوا في بومدين، تحمّلوا الشاذلي، أحبُّوا بوضياف، أشفقوا على كافي واحترموا زروال. لم يهينوا صورة أيّ منهم.

يوم الجمعة 22 فبراير/شباط كان تعبيرا عن نهاية شيء وبداية آخر. ذلك اليوم هو تاريخ سقوط حاجز الخوف ونهاية المقدّس. عشرات آلاف الجزائريين صرخوا بكل ما في حناجرهم من قوة أنهم لا يريدون بوتفليقة. لم يعد بوتفليقة رجل إجماع. لا في الشارع ولا بين الزُمر الحاكمة. لو كان كذلك لمَ خرجت كل الجزائر ضده، ولامتنعت وكالة الأنباء الجزائرية عن بث خبر المظاهرات. الذين أوعزوا لقوات الأمن بالتساهل مع المظاهرات، وتشجيعها في بعض المواقف، هم ذاتهم الذين أمروا وكالة الأنباء الجزائرية ببث الخبر. 22 فبراير لا علاقة له بفشلك كرئيس بل بمشاعر الإهانة التي جلبها خبر ترشحك بعد أن قضيت ولايتك الرابعة في السرير.

الله أعلم هل نقل لك الذين يحاصرونك في مرضك وقائع الجمعة وما بعده. هم وأزلامهم من مهرِّجين في جبهة التحرير والتجمع الديمقراطي وغيرهم يقاتلون من أجل مصالحهم لا مصلحتك. سيطبِّلون للذي سيخلفك في الساعة التي تعقب ذهابك.

لم يكن ضروريا الوصول إلى كل هذا. كان بإمكانك أن تحقق بانسحابك مبكرا أضعاف ما سعيت لتحقيقه ببقائك الثقيل والطويل. لو تنازلتَ عن الرئاسة قبل اليوم كنت ستدخل التاريخ من باب واسع، وتُبنى لك التماثيل في المدن الجزائرية. لكنك اخترت طريقا أخرى.

ارحل ومَن معك، فهذا أكرم لكم جميعا.

عن صحيفة القدس العربي

0
التعليقات (0)

خبر عاجل