هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
دعونا من الذين نددوا بزيارة الرئيس السوداني عمر البشير إلى دمشق
ولقائه بنظيره السوري بشار الأسد، دعونا ممن كتب مثلا «مجرم حرب يلتقي بمجرم حرب»
أو «رئيس نصف السودان يزور شقيقه رئيس ثلاثة أخماس سوريا». دعونا من هؤلاء
الغاضبين الساخطين، ولنلق نظرة عن بعض تصريحات من نزلت هذه الزيارة على قلوبهم
بردا وسلاما فأشعرتهم بأن وقوفهم مع «نظام الممانعة» كان وقوفا مع الجانب الأصح في
التاريخ.
يقول
أحد هؤلاء إنّ الذي أتى بالرئيس السوداني عمر بشير إلى دمشق هو «انتصار سوريا
وتخلي معظم الدول بما فيها تركيا عن المعارضة السورية، وإذا نظرنا إلى الدول
العربية نجد أن الدول التي كانت معادية لسوريا هي التي تعيش حالة أزمة وليست سوريا
التي بات وضعها أفضل من وضع قطر المحاصرة». ويضيف أن «وضع سوريا أفضل من وضع
السعودية بعد مقتل الصحافي السعودي جمال خاشقجي» وأن هناك دولا «أصبحت في حالة
أزمة وليست سوريا وهي تحاول كسر الحصار عن نفسها وليس كسر الحصار عن سوريا (…)
ولهذا بعد زيارة البشير سيفتح باب الحجيج العربي والدبلوماسي إلى دمشق».
باحث
آخر من جماعة «الممانعة» يرى في زيارة البشير إلى دمشق «مؤشرا على أن حلفه مع
السعودية وخاصة في حرب اليمن قد انتهى، بعد أن عرف من هو المنتصر ومن هو المنهزم
في هذه الحرب، وبالتالي هو يبحث عن موقع صلب لكي يقف عليه، وقد اختار أن يقف مع
محور المنتصرين».
وهذا
باحث آخر يحلل فيرى أن «هناك بعدين لزيارة الرئيس السوداني عمر حسن البشير إلى
سوريا، الأول يتمثل بأن البشير حاضر على ضفتي التناقض الخليجي مع سوريا، من خلال
تحالفه مع السعودية في معركة اليمن، كما أنه موجود بالبعد الإخواني عبر حلفه مع
قطر وتركيا، ومن المعروف أن المحورين يتسابقان على كسب ودّ سوريا في المرحلة
الجديدة». أما البعد الثاني فيتمثل بأن «السعوديين يخوضون عبر الإمارات منذ زمن
حوارا غير مباشر مع السوريين، وقد تكون قد حدثت لقاءات مباشرة سعودية سورية برعاية
الإمارات».
وحتى
لا ننهي هذا العرض السريع،الذي أغفلنا قائليه عن عمد، دون أي رأي سوداني، ها هو
أحد رؤساء تحرير صحف الخرطوم يرى أن «الرئيس السوري أثبت أنه رقم صعب لا يمكن
تجاوزه في المعادلة السورية، كما أن المعارضة بشقيها المسلح والمدني أصبحت في غاية
الضعف»، مبينا أن «كل الدول المعنية بالأمر السوري، ربما ستراجع مواقفها الحادة
التي اتخذتها في السابق بخصوص النظام».
وإذا
كان الغاضبون من الزيارة قد أعطوا الأولوية للجانب الأخلاقي القيمي في القصة كلها
مستهجنين هذا المشهد السريالي الذي يحاول فيه مـُـلاحـَـق من المحاكم الدولية نجدة
ملاحق آخر، فإن المستبشرين بها لم يغفلوا شيئا إغفالهم لهذه المسألة تحديدا، وكأن
هذه الجرائم هي من «صغار اللمم»، بل وكأن هؤلاء الضحايا لا قيمة لهم أبدا.
قد
يكون الأوائل حالمين معتقدين أنه ما زالت للقيم الإنسانية مكانة في هذا العالم
المتوحش لكن الآخرين أثبتوا بتجاهلهم الكامل لهذه القيم مدى استهتارهم بتلك
الخسائر البشرية المهولة في جنوب السودان ودارفور وحلب وكل أرجاء سوريا. قد يجوز
أن نصل في وصف الأوائل إلى حد القول إنهم «طيبون» أو حتى «سذج»، لكن الآخرين هم
بالتأكيد شركاء في هذه الجرائم.
للأوائل
الحق الأخلاقي في أنهم تحدثوا سابقا، وسيتحدثون لاحقا، عن الجرائم الإسرائيلية ضد
الفلسطينيين وأية جرائم أخرى قد تحدث في أي مكان من العالم، لكن لن يكون للثانين
في المطلق أية مصداقية إذا ما تحدثوا يوما عن الممارسات الإسرائيلية، وهم كثيرا ما
يفعلون، علما وأن مثل هذه الممارسات تمت في سياق حروب تاريخية عميقة الكراهية
الوطنية أو العرقية أو الدينية بينما ما نشهده في السودان وسوريا هو من باب ظلم
ذوي القربى. لم يفعل البشير ما فعل إلا بأبناء شعبه ولم يفعل بشار ما فعل سوى
بأبناء شعبه كذلك.
لو
أن ما كتبه المهللون لزيارة البشير إلى دمشق كتبه فنلندي أو سويدي لتقبلنا بروده
الشديد في تناول الموضوع من باب الواقعية السياسية، لكن أصحابنا الذين أشرنا إليهم
هم فلسطينيون ولبنانيون، يصرخون في كل مرة إذا ما اعتدت إسرائيل على إخوانهم، وهي
عدو، طالبين وقوف العرب معهم ومستنكرين تقاعسهم وخذلانهم، لكنهم في نفس الوقت لا
يرون حرجا أبدا في الإشادة بمن ذبح شعبه وقصفه بالكيمياوي والبراميل المتفجرة.
المسألة الأخرى الخطيرة التي لم ينتبه إليها هؤلاء أن انتصار الظلم لا يجعل منه
عدلا، يجب القبول به، لأن هذا المنطق ذاته سيجرنا للقبول بوضع اليد في اليد مع
نتنياهو.
ماذا
يمكن أن يقول أحد ضحايا البشير أو بشار وهو يقرأ لهؤلاء؟!! وهل يمكن أن نلومه إن
هو كفر بضرورة الوقوف مع الفلسطينيين الضحايا أو اللبنانيين؟!!
لعن
الله هذا المنطق الذي قد يدفعه يوما إلى ذلك.
عن صحيفة القدس العربي