هناك الكثير مما يمكن الحديث عنه بشأن واقعة الاعتداء على أمين عام مؤسسة "مؤمنون بلا حدود"، التي تبين أنها مفبركة، وجاءت عقب إلغاء ندوة للمؤسسة في عمّان، انطوت عناوينها على استفزاز للمجتمع الأردني، المعروف بالمحافظة والتدين.
قيل الكثير بشأن الواقعة، وما يمكن أن نضيفه هنا يتعلق بجوهر الفكرة التي تقوم خلف هذه المؤسسة وعدد من المؤسسات والمواقع الإلكترونية التي تحمل الرسالة الفكرية ذاتها، ممثلة في "إعادة النظر" بالمنظومة الدينية في مجتمعاتنا العربية والإسلامية.
في الظاهر، هناك حديث عن التجديد الديني، وعن التسامح، وعن التعددية الفكرية، وما شابه من عناوين برّاقة قد تستقطب بعض الشباب الذين تصاعدت الأسئلة لديهم، ولم يعد
الخطاب الديني التقليدي كافيا لإقناعهم.
من الناحية الواقعية، وحين نتحدث عن المدافعة الفكرية، فلا مشكلة في أن يطرح كلٌّ رؤيته للخطاب الديني، لأن النهاية أن "الزبد" غالباً ما سيذهب جُفاءً، فيما لن يمكث في الأرض إلا "ما ينفع الناس"، وليس بوسع أحد في هذا الفضاء المعلوماتي المفتوح أن يحجر على الأفكار.
لكن المشكلة في تبني هذه المؤسسات من جهات معينة لها أجندة سياسية لا تتصل بمصالح الشعوب، لأن جوهر مأساة الوطن العربي اليوم لا يكمن في خلل الأفكار، بل في الخلل السياسي.
لم يكن
الربيع العربي احتجاجا دينيا، ولم تكن الجماهير التي خرجت إلى الشوارع تبحث عن مزيد من التدين أو لنقل الحرية الدينية، بل كانت تبحث عن الحرية السياسية التي أدى غيابها إلى شيوع الفساد بعد سيطرة نخب معينة على السلطة والثروة.
من هنا، فهذه النخب التي تخرج من هنا وهناك لتعيد النظر في الخطاب الديني، لا صلة لها أبدا بمصالح مجتمعاتها ولا بهواجسها، بل بهواجس من يموّلون تلك المؤسسات، الذين لهم موقف مناهض بالكامل للحرية والتعددية السياسية، بل إن عملهم هذا هو جزء لا يتجزأ من هذا التوجه.
لقد رأى هؤلاء أن ما تُسمى قوى الإسلام السياسي هي التي وقفت خلف ربيع العرب، والحرب على هذه لن تنجح إلا بضرب حاضنتها الشعبية، وحاضنتها الشعبية تكمن في التدين، ولا بد من ضرب هذا الأخير عبر تشكيك الناس في معتقداتهم الدينية.
دعك من الخبل الذي ينطوي عليه هذا الطرح، لأن غياب التدين ومن بعده الإسلام السياسي، في حال كان ذلك ممكناً -وهو ليس كذلك- أقله في المدى القريب والمتوسط، لن يفضي إلى إنهاء حالة الاحتجاج ضد الديكتاتورية والظلم والفساد، بل سيتبناه آخرون بصرف النظر عن الأيديولوجيا التي سيحملونها.
من هنا يمكن القول إن هذه النخب التي تعمل في إطار هذه المؤسسات التي تستهدف التدين الاجتماعي بالتشكيك، ليست أمينة على مبدأ الحرية، لأنها تريد حرية دينية، فيما تتعاون مع جهات تستهدف الحرية السياسية، وهي الأكثر أهمية بالنسبة للجماهير العربية والإسلامية.
الجانب الآخر الذي يستحق التوقف في هؤلاء، هو أنهم يريدون حرية لهم وحدهم، وما إن يهاجمهم الناس حتى يصرخوا بأعلى أصواتهم مستنجدين ضد "الإقصاء والتكفير"، ويشرعون مباشرة في اتهام قوى الإسلام السياسي، مع أنها الأقل هجوماً عليهم تبعاً لخوفها من تهمة الإقصاء.
الخلاصة، أن تجربة أكثر النخب
العلمانية واليسارية ليست مشرّفة بحال، فهي تقبل العمل في معسكر الأنظمة الشمولية لمطاردة خصومها الإسلاميين، ومن يتابع المشهد العربي سيرى ذلك بكل وضوح، ما يذكّرنا بمصطلح "الليبروجامية" في الخليج، الذي يعني التيار الليبرالي الذي يلتحم بالتيار السلفي "الجامي" في المطالبة بطاعة ولي الأمر مهما فعل، فيما يفترق معه في قضايا الانفتاح الاجتماعي التي يريد فرضها من خلال سطوة السلطة أيضا، وليس بالاختيار الحر للمجتمع!!
(عن صحيفة العرب القطرية)