منْ يفكر في أحوال العالم بخاصة في هذه الفترة، ومنْ يتعمق في دراسة أحوال الشرفاء والمخلصين فيه لا بد أن يُصاب بالدوار إن لم تكن له صلة أو سبب يربطانه برب العزة ويهونان عليه ما يجد ويلاقي.
ترى كم عمر الباطل فوق هذه الأرض التي نحيا جميعا عليها؟ وكم عمَّر الخير فوق ربوعها خلال تاريخها كله؟ وكم المساحة التي يسودها العدل بين جنبات وأرجاء عالم اليوم؟!
ينمحي ويزول الزمان والمكان، فأجدني خيالا هناك إلى جوار أبي الوجود البشري كله، بما فيه من زهاد وأنبياء ورسل ومصلحين؛ أراه يُحسن تربية ابنيه "هابيل" و"قابيل". ورغم ذلك، تحرش الأخير الفاسد بالصالح.. واحتال حتى انفرد عليه فقتله من أجل متعة فانية من الحياة الدنيا. وأرى بعين الخيال "قابيل" المجرم لا يعرف أين يدفن جثمان "هابيل" الطاهر، حتى بعث الله غرابا يبحث في الأرض ليُريه كيف يواري أخاه؛ فندم على قتل أخيه لكنه لم يتب لربه، وهام على وجهه حتى لقي حتفه - على أرجح الآراء التاريخية - فلم يعثر على المتعة التي أرادها ولا حياته الأولى وسط أبويه "آدم" و"حواء"، وسبب لهما آلاما لا تطاق.. ثم البشرية المُعذبة من بعد تُسمي صغارها المواليد باسم القاتل "قابيل"، وتنسى أول شهيد فوق ظهر الأرض "هابيل"!
وخلال رحلة الوجود أرقب بعين الخيال آلام سيدنا "نوح"، بعد دهر غير كثير من القصة الماضية.. وقصة "آدم" وابنيه.. أرقب في وجداني سيدنا "نوح" يدعو قومه ليلا ونهارا حتى لتصل سنوات دعوته ألف سنة إلا خمسين فما يؤمن معه منهم إلا عدد قليل، حتى ليرفع كفيه بالضراعة والابتهال ألا يذر على ظهر الأرض من الكافرين ديارا أو رئة تتنفس.
وهو يُقاوم السخرية المتتابعة المريرة من قومه، وهو يصنع في الصحراء القاحلة التي تشرب الماء بصعوبة.. يصنع سفينة عملاقة، حتى إذا أتمها تلفت جامعا من الكون زوجين اثنين من مخلوقاته وأهل الصلاح، إذ إن الطوفان بدأ يعم الأرض وينتشر في أرجائها وجنباتها، ويتلفت سيدنا "نوح" باحثا عن ابنه فلذة كبده فلا يجده في السفينة؛ بل يراه متشبثا بالكفر فوق جبل يظن أنه سينجيه، فيطالبه بعقل الأب وقلبه المؤمن أن يلحق به، فيأبى ويرفض الابن القليل التقدير العديم الإيمان، ويظن أن جبلا يعصمه من الله ثم الطوفان.
وفي كلمة أخيرة لاهثة سريعة، يقول الأب النبي لابنه ألا عاصم اليوم من أمر الله.. ولكن بلا نتيجة.. يمنع الموج الهائل كالجبال؛ الأب من رؤية ابنه حتى يغرق!
ويكاد قلب سيدنا "نوح" ينفطر ألما ويقطر دما، وهو يتوجه بكيانه إلى ربه، يدعوه ويناجيه في هذه اللحظات المريرة القاسية عليه؛ إذ إن ابنه يغرق ولا يملك أن يحفظه أو يمنع الموت عنه وينجيه.. فيقول سيدنا "نوح" لخالقه في ألم غير محدود إن وعده تعالى الحق، وإن فلذة كبده التي تغرق هي ابنه، وابنه من أهله، ووعدتني يا خالقي ألا تغرق أحدا من أهلي؟
فيجيء الرد الإلهي حاسما، رغم لوعة وأحزان سيدنا "نوح" أن الغريق ليس من أهله؛ لأنه عمل عملا غير صالح.. أو أن الغريق كله عمل غير صالح!
وتمضي مواجب الآلام والأحزان في الكون تحمل الابتلاءات لأفضل أهل الأرض لتُعلي من درجاتهم لدى خالقهم.. وتنفض عنهم آثار الذنوب والمعاصي التي لا ينجو منها بشر.. ونلقى في رحلتنا أب الأنبياء سيدنا "إبراهيم" في رحلة طويلة لدعوة قومه إلى الله.. ومن ثم حرمانه من الذرية، لكن الله يعد له مفاجأة لم تكن تخطر له على بال، إذ تحمل زوجته "هاجر" بسيدنا "إسماعيل" بعد أن بلغ سيدنا "إبراهيم" من الكبر عتيا؛ وما يكاد أبو الأنبياء يفرح قليلا بالخبر إلا والأمر الإلهي أن يذهب بأمه والرضيع إلى الصحراء ليتركهما هناك..
وتنتهي القصة المريرة على خير، وتنجو السيدة "هاجر" وسيدنا "إسماعيل" من الموت جوعا وعطشا، ويلتئم شمل العائلة الكريمة من جديد، فما يلبث الأمر الإلهي أن يعود في صورة منام هذه المرة.. وبيد سيدنا "إبراهيم" إذ إنه عليه أن يذبح ابنه الذي نجا بأعجوبة من الموت صغيرا.. ويوافق الأب النبي العظيم ويوافق الابن العاقل الحكيم، وتكاد السكين تذبح لولا أن تداركهما ربهما برحمته في اللحظة الأخيرة.
إن هذا القصص وغيره الكثير مما سنكمله لاحقا هو المثبت والمُصبر لملايين المؤمنين على ما يشاهدونه ويرونه بأم أعينهم من فوضى العالم الحالي ومهازله..!