هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
مرّ الموقف من مسألة التفاوض مع «الشيطان الأكبر»، في إشارة للولايات
المتحدة، بعدة مراحل: من الرفض المبدئي لأي تفاوض مباشر أو غير مباشر، إلى القبول
بأدوار وساطة لعبها طرف ثالث، لمعالجة بعض القضايا والملفات، مرورا بالقبول
المشروط بالتفاوض في إطار مجموعة «5 + 1»، وصولا لإبداء الاستعداد للتفاوض المباشر
والمنفرد، ولكن بعد الحصول على ضمانات حول حسن النوايا والتنفيذ، وجدية الالتزام
بالنتائج والتعهدات.
طهران
استقبلت مبادرة ترامب الأخيرة، لحوار غير مشروط، وفي أي زمان ومكان، بالرفض ابتداء...
بيد أنها لم تمانع، بل وربما تكون بادرت للطلب من عُمان ببذل «مساع حميدة» مع
واشنطن... واليوم، يتحدث المسؤولون الإيرانيون، بمن فيهم الوزير محمد جواد ظريف،
عن قبول مبدأي بالتفاوض، ونفي تحريمه أو تجريمه، ولكن بعد الحصول على ضمانات من
نوع: أجندة المفاوضات وغاياته النهائية، وإلزامية النتائج التي سينتهي إليها
والاتفاقات التي ستبرم في نهاياتها.
عند
هذه النقطة بالذات، لا يتعين توقع التئاما سريعا لمائدة محادثات ثنائية بين
الجانبين... الأرجح أن التطورات الأخيرة في مواقف الطرفين، ستشجع الدول والوسطاء
المؤهلين للقيام بهذه المهمة، على تحفيز نشاطهم وتكثيف جهودهم... مسقط، لها إرث
طويل في هذا المضمار، وهي دشنت وساطتها بزيارة «هامة» قام بها الوزير المخضرم يوسف
بن علوي عبد الله إلى الولايات المتحدة... سويسرا من موقعها المحايد، عرضت بدورها
القيام بدور مماثل.
ليست
إيران في موقفها «المرن» الجديد من مسألة التفاوض، هي وحدها من نزل عن قمة
الشجرة... قبلها، كان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، ينفذ هبوطا مماثلا عن قمة
شجرة مايك بومبيو وشروطه الاثني عشرة، التي تجعل مجرد التفكير بالتفاوض، ضربا من
«الانتحار»، و«صك أذهان» يتعين على الإيرانيين تجرع كأسه المرة، حتى قبل البدء في
تبادل الأفكار والمقترحات مع نظرائهم الأمريكيين.
يعني
ذلك كله، أن باب الدبلوماسية لم يغلق بعد، في وجه أي محاولة جادة وجدية لتفادي سيناريو
المواجهة الأسوأ... لكن حين يتعلق الأمر بكل من إيران والولايات المتحدة، فإن
الدبلوماسية وحدها لا تكفي، فهي كـ»الدعاء من دون قليل من القطران»... و»القطران»
المطلوب توفيره من قبل الفريقين، هو أشبه ما يكون باستعراض مكلف للعضلات: واشنطن
ستمضي في عقوبات غير المسبوقة في التاريخ ضد إيران... وطهران، ستقلب كل حجر بحثا
عن أوراق قوة تشهرها في وجه «الدولة الأعظم».
معنى
ذلك أيضا، أن إرهاصات الانفراج لن تطل برأسها قريبا، أو ربما في المدى المنظور،
فما تحقق حتى الآن، ربما يمثل ابتعادا للطرفين خطوة واحدة عن «حافة الهاوية»، أو
تأجيل سيناريو «الانفجار» حتى إشعار آخر... هنا، وهنا بالذات، تدخل الدبلوماسية
مرة أخرى، في سباق محموم مع رياح التصعيد والتفجير الصفراء العاتية، والتي إن هبت
على إيران، فلن تنجو من تأثيراتها المدمرة، مروحة واسعة من دول المنطقة
ومجتمعاتها، وسيكون لها آثارها وتداعياتها على الأمن والاستقرار الدوليين.
وفي
ظني أن أولى مهام «الوسيط» بين البلدين، أيا كانت هويته، هي محاولة اجتراح سلسلة
من إجراءات بناء الثقة بينهما، فالثقة منعدمة تماما، وقد تحولت إلى نقيضها، بعد
قرار واشنطن الاستفزازي، بالانسحاب من جانب واحد من الاتفاق النووي المبرم في
العام 2015... حزمة إجراءات بناء الثقة، يجب أن تكون كفيلة بإقناع إيران، بأن جهد
مفاوضيها، وتنازلاتهم القديمة في الاتفاق القائم، أو الجديدة المطلوبة بموجب
«الاتفاق الجديد» الذي تنشده إدارة ترامب، لن تضيع هباء، وأنها ستحصل في المقابل،
على رزمة مغانم، تمكن قادة طهران، من تسويق أية صفقة على الرأي العام الإيراني،
الذي دفع باهظا، ثمن العقوبات والحصار وارتفعت سقوف توقعاته، بعد توصل قيادته إلى
اتفاق مع المجتمع الدولي قبل ثلاث سنوات.
وحتى
بفرض نجاح «الوسيط/الوسطاء» في بلورة حزمة إجراءات بناء الثقة، وتدشين قنوات تفاوض
خلفية أو أمامية (لا فرق)، فإن فرص الاتفاق بين الجانبين على «اتفاق شامل» ينطوي
على برنامج طهران الصاروخي إلى جانب برنامجها النووي، ويتناول دورها الإقليمي،
ستكون ضئيلة للغاية، فما تطلبه واشنطن وتشترطه، أكبر وأعقد من أن تقبل به، أية
قيادات معتدلة أو إصلاحية في إيران... فالتيار الإصلاحي الذي وجد صعوبة في اجتياز
طريق المفاوضات مع مجموعة «5+1» من قبل، ستكون مهمته أصعب بكثير، وأشد تعقيدا في
المرة المقبلة... لكن تجربة إيران مع المجتمع الدولي زمن إدارة أوباما، ومن بعدها
تجربة الحوار الأمريكي – الكوري الشمالي، تذكرنا باستمرار بقاعدة: «لا يوجد مستحيل
أمام الدبلوماسية»، وتعيد تذكيرنا بأن عصر المعجزات والمفاجآت الكبرى، لم ينقض بعد.
عن صحيفة الدستور الأردنية