هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
ما كان أغنى التوانسة عن معركة تثبيت الحكومة في هذا الظرف الدقيق والحساس من عمر البلد. وما كان أولى بالنخبة السياسية أن تنصرف إلى إصلاح حالة البلد الاقتصادية فالحالة تسر العدو وتؤذي الصديق.
كل المؤشرات في النازل ولكن الجهد انصرف إلى إحداث زوبعة سياسية أوشكت أن تعصف بالمرحلة وبالبلد وتهدد كيان الدولة برمته. هل نقول الآن لقد نجونا ونتفاءل سأقول لقد أجلت الأزمة أو رحلت فمفاعيل الأزمة لا تزال تختمر والبلد لا يزال على كف عفريت فالنزوات الفردية لم ترعو وصغار النفوس لا يزالون قادرين على التحكم بالمشهد والدفع إلى أزمات كثيرة. ولكن سنؤلف جملا متفائلة رغم ذلك.
يوسف الشاهد ليس بسمارك
بحثا عن الاستقرار السياسي في حده الأدنى أعيد تثبيت حكومة يوسف الشاهد الضعيفة(بسد الشغور في الداخلية). فالشاهد وحكومته ليسوا جهابذة ولم يبدعوا حلولا عبقرية للخروج من حالة الهوان الاقتصادي ومن الأزمات الاجتماعية التي تتناسل من بعضها. لكن إسقاط هذه الحكومة في هذا الظرف لم يكن مقصودا لغاية تجاوز ضعفها بل لغايات كانت ستزيد الحالة ضعفا وهوانا.
كان هناك هدف وحيد، يتخفى خلف شعارات كبيرة وفارغة. إحداث أكبر قدر من الفوضى السياسية المفضية إلى إلغاء المسار الديمقراطي الحالي. على أمل قطع الطريق على انتخابات تبين بالحساب البسيط أنها ستفضي إلى تمكن حزب النهضة من التحكم كليا في المشهد السياسي ثم إدارة البلد بعد 2019. لقد كانت نتائج الانتخابات البلدية واضحة في دلالاتها لكل مراقب.
لذلك وجدنا كل تيار الحداثة التونسي بتكويناته الأيديولوجية المتناقضة يقف ضد حكومة الشاهد ويناصر ابن الرئيس ضد رئيس الحكومة. لم يكن ابن الرئيس يعي هذا الانقسام العميق بل كان يركز فقط على هدفه الشخصي الخاص أن يصير رئيسا للبلد. اجتمعت رغبته الصغيرة (العارفون بالكواليس يقولون هي رغبة أمه وزوجته) مع خطة استئصال سياسي فكانت الأزمة.
ثم كانت النتيجة القبول بحكومة الحد الأدنى وعلينا أن نثمن الاستقرار في الضعف على الفوضى المفضية إلى الانهيار. ونقول لقد مرت تونس من سم الخياط الديمقراطي. فقد دخلنا رغم كل هذا الاضطراب في عصر ما بعد الباجي الشخص والأسرة.
نهاية الباجي السياسية
انتهى الباجي سياسيا ليس لأنه طاعن في السن ولا يمكن الاعتماد عليه حتى 2024 من الخارج قبل الداخل بل لأنه قامر بتثبيت أسرته في الحكم فخسر حزبه أولا وخسر المكانة التي اشتغل عليها عند التونسيين أي مكانة العجوز الحكيم الذي يعرف مصلحة البلد ويسبقها على مصلحته الشخصية. كما انتهى ابنه من بعده (الحقيقة أن ابنه ليس شيئا مذكورا) فليس له من الإمكانيات إلا اسم أبيه.
لن يكون مرشح النداء في الانتخابات القادمة مهما حاول إصلاح ما أفسده خلال هذه الأزمة. لقد تفكك الحزب ولن يمكن له منافسة حزب متماسك (النهضة) بالشتات الموجود الآن. لكن هذا الشتات لم يندثر ولذلك فان يوسف الشاهد الذي أعلن عدم تكوين حزب جديد والتمسك بالنداء في وضعية مريحة أمام ابن الرئيس ليعيد تأليف شتات الحزب حول شخصه وبرنامجه في ما تبقي من الزمن عن الانتخابات القادمة. بما يعني إخراج أسرة الباجي نهائيا من المشهد. وليس لشتات النداء إلا مصير وحيد الالتفاف حول الشاهد.
لهذه الغاية حرر الشاهد صديقه ووزيره مهدي بن غربية ليشتغل على تأليف هذا الشتات وقد (غطس) بن غربية في الكواليس وينتظر أن يظهر على السطح بمشروع مؤتمر أول للحزب الذي حكم دون أن يعقد مؤتمرا واحدا. نتوقع أن سيكون شتاء النداء (أو ما تبقى منه) ساخنا.
وستكسر عظام كثيرة في سبيل دحر فلول ابن الرئيس وتقديم قيادة مختلفة تؤمن بالشاهد وفريقه الذي يستعد للحكم بعد 2019. وستكون حجة كسر حزب النهضة وعدم ترك المساحات له ليلعب وحده حجة تجميعية قوية بل ستجلب كل انتهازيي صف الحداثة المشتت إلى حافظ الفتى الحضري المتفتح والعلماني القادر على مقارعة الغنوشي(الاخوانجي). فهذا الشتات لم يؤمن يوما بالبناء على أرض غير أرض كسر الآخر وهدم بنيانه.
حزب النهضة أنقذ المرحلة
يحق لأبناء النهضة التفاخر بأنهم أنقذوا المرحلة من الانهيار. لقد كان الغنوشي صارما وهو يخرج من آخر اجتماع لوثيقة قرطاج 2 فيقول انتهى عصر تنازلات النهضة. لقد كانت نتائج الانتخابات البلدية بين يديه. وكان حزبه منتصرا ربما بقدر لم يتوقعه. لقد كان مع كل الإصلاحات الاقتصادية التي تضمنتها الوثيقة لكنه رفض تغيير الحكومة. فلم يكن في تغييرها فائدة إلا لنزوة ابن الرئيس والفريق الاستئصالي الذي يحيط به.(والذي للغرابة كان آخر فريق استشاري لبن علي قبل هروبه).
كتلة نواب النهضة في البرلمان حددت مصير الحكومة. وألزمت الرئيس بالصمت عن إقالته. وهو ما حفز الشاهد على القدوم للبرلمان لنيل ثقة وزير الداخلية الجديد الذي وجد نفسه يثبت بـ148 صوتا وهو نصاب لم يحصل عليه غيره قبله.
لقد انقلب البرلمان في ساعتين لصالحه بعد أن كان دخله خائفا. موقف النهضة كان حاسما. لا يمكن معالجة المشاكل الاقتصادية في البلد بخلق أزمة سياسية في الحكومة. فالأولى خلق مناخ استقرار وهي أطروحة جذبت للنهضة أرصدة جديدة لم يتبين حجمها بعد. ولكن كل الذين كانوا خائفين على أرزاقهم وهم طبقة رجال الأعمال الممولة لحزب النداء(وهم كتلة فلوس بلا مبادئ) تعرف الآن إن مالها ضمنته النهضة. وسيكون لهذا ثمن لاحقا في الصناديق فصلا على أن من يراقب الوضع من الخارج وهم كثر يعرفون الآن أن استقرار التجربة في تونس مدين للنهضة وسيكون لهذا أيضا ثمن.
لم ينقذ الغنوشي الحكومة ويفرض الاستقرار المفضي إلى الانتخابات فقط بل دفع حزبه إلى مقدمة المشهد السياسي ومكن له حتى الآن من لعب دور الحكم الذي لا يمكن فعل شيء بدونه.وهو الآن في وضع تفاوضي جيد مع الداخل والخارج.
تسمع أصوات كثيرة الآن في تونس تعبر عن الانبهار بقدرة الحزب السياسية وذكاء قادته وتسمع عبارات حسد واستعداد للتخريب أيضا مما يجعل التمكين المنتظر عملية عسيرة وخطرة. فيما تحرص قيادة الحزب على الترويج للتوافق الدائم كسبيل وحيدة لإدارة البلد في مراحل انتقالية.
مع من سيكون التوافق القادم؟ لا شك أن الباجي لم يعد طرفا قويا وأن الشاهد يؤهل نفسه لموقع تفاوضي مع النهضة.وقد يفلح في تجميع أوراق كثيرة لعل أهمها ترميم حزب النداء بدون أسرة الباجي. غير أن الشاهد في موقعه الحالي وحتى الموعد الانتخابي القادم قادر على البقاء في المشهد كفاعل أول عبر عمليات شجاعة لضرب الفساد وإعادة هيبة الإدارة وطمأنة المواطن المسحوق في عيشه وفي أمنه اليومي.
هل يملك الشجاعة لذلك فالأمر ليس رغبة أو شعورا وطنيا طيبا فقط بل هو أولا ضرب القاعدة الرئيسية لحزب النداء فهي القاعدة الفاسدة التي احتمت بالحزب منذ إعلان تأسيسيه سنة 2012. وفرضت قانون عدم المحاسبة ولا تزال تتآلف حول كل تنظيم ينقذها من المحاسبة.
حتى الآن ورغم أن ما يجري يدخل دوما في إنقاذ ما يمكن إنقاذه من الدولة (أي التفريط فيما يمكن التفريط فيه) فإن هذا الحد الأدنى السياسي الذي تمر به تونس هو مرور عسير من سم الخياط الديمقراطي والأمل معقود على مواعيد انتخابية قادمة تغير بعض سوداوية المشهد وفشله.
بعض أسباب هذا الأمل هي أن النقابة اليسارية التي تقود عمليات التخريب المنهجي منذ خسر اليسار انتخابات 2011 قد وضعت نفسها في موضع معاد لمسار الانتقال الديمقراطي وهي الآن معزولة وتمارس تصعيدا إجراميا من قبيل إعلانها إضرابا لمدة يومين في جميع مطارات البلد في ذروة موسم السياحة وعودة المهاجرين للتصييف.
إنها تضع نفسها هدفا لرد فعل انتقامي من فئات واسعة من الشعب لم يعد ينطلي عليها خطاب الوقوف مع الفقراء وحمايتهم من حكومات التفويت. فالنقابة هي السبب الرئيسي في إفشال مؤسسات القطاع العام وهذا أمر بدأ التونسيون يعونه وقريبا يحاسبون عليه بشراسة. في يوم تزكية حكومة الشاهد لم يخسر الباجي فقط بل خسر اليسار أيضا وقد فقد دور المحلل الوظيفي. وهذا موضوع ورقة قادمة.