(1)
"الوضع سيئ.. سيئ جدا، لذلك أشعر بالقذارة في كل مكان.. أشعر بالغثيان، طاردني ذلك الشعور المقرف حتى داخل غرفتي الخاصة، فلم أعد أعرف أين أذهب، أصابنى دوار ثقيل وتداعى جسدي منهارا على المقعد، وملأتني رغبة جبارة في التقيؤ. ومنذ ذلك الحين لم يتركني الغثيان".
هذا المقطع من رواية "الغثيان" لسارتر؛ يعكس حالي وحال ملايين الغاضبين من الأوضاع "المقرفة" التي تجاوزت طاقة التحمل، لذلك كان لزاما عليّ أن ألقي بما استطعت من قاذورات سياسية بعيدا عن قلبي وعن رأسي، لأستعيد قدرتي على التنفس والقدرة على الاستمرار برغم هذه الأوضاع، لذلك لن أكتب اليوم عن أي مسؤول سياسي مصري أو عربي، لن أناقش قضايا التبعية ومذلات صفقة القرن ومشاهد الخراب الاجتماعي والاقتصادي والسياسي التي باتت جل أيامنا وصبغة حياتنا.. سأكتب عن ديوان شعر صدر حديثا لشاعر مصري يعيش ويبدع في الظل، ينظر بهدوء، ويحزن بهدوء، ويكتب بهدوء متأملا أطلال زمن كان، من غير أن يسقط في بئر المرارة أو يستسلم لشروط القبح في دولة الاشلاء ومجتمع الخرابة.
قبل أن تقرأ، عندي نصيحة لا بد منها لكي تتمكن من الدخول إلى أجواء الديوان، لأنك لن تحصل على جوهر المعنى في المقال إلا بخريطة قراءة، تشبه "خريطة الكنز"، فلن تفصح المعاني عن روحها، إلا إذا اتبعت الخطوات التالية:
أ- افتح صفحة ويب على محرك بحث جوجل.
ب- اختر فئة "صور".
ج- انسخ هذه الكلمة "Giacometti" في مربع البحث.
د- اضغط إنتر وتأمل الصور التي ستظهر أمامك.
(2)
إذا كنت قد عملت بالنصيحة فإنك قد رأيت مجموعة متنوعة من اللوحات والتماثيل النحيفة حد الهزال، حتى يخيل إليك أن الصدأ أكلها إلا قليلا، ومع ذلك فقد تمعنت في بقايا البشر وملامح العالم الزائل:
"لم يكونوا كأبطال الملاحم لتكرههم الألهة/ ولا مساكين ليحبهم الله"
لذا قد يصيبك مسٌ من الحزن، أو تأخذك الذاكرة إلى ملاحم قديمة بالفعل، تنثر ماء البهجة على براعم الحزن المتجددة، فالبشر الذين راحوا سامقون، ويتحركون بحيوية بالغة: يرقصون حينا، يمشون بهدوء حينا، أو يثبتون حينا في أماكنهم (جالسين أو واقفين) وكأنهم يقلدون تماثيلا حقيقية، يتناقشون بعض الوقت، لكنهم في معظم الوقت يتأملون بصمت ناطق في مشاهدٍ لا نراها نحن.. بقدر ما نشعر بها!
(3)
تلك هي الصورة التي رأيت عليها أشعار المبدع الهادئ أحمد أنيس، فهو يكتب قصيدة "جياكوميتية" عن عالمٍ "كان".. لكنه يظل بالإمكان، عن عالم حاضر فينا برغم الهشاشة.. عالم حي لم يمت تماما؛ لأن بقاياه النابضة في الذاكرة تظل أكثر صدقا وتعبيرا وحياة من العالم الكاذب.. القبيح.. المتجمد.. الذي يهيل التراب بغباء وجلافة على مالا نستطيع نسيانه.
"وفشلت في فهم أشياء كثيرة/ ليس أقلها: كيف يحب الناس مدنا بلا تراب؟/ وكيف يختلفون على الإيمان به؟ هذه قصة قديمة: ربما منذ الخلطة الأولى/ وللتراب قداسته في تفاسير الحنين".
(4)
أحمد أنيس، واحد من فرسان المجددين المبدعين في الثورة الثالثة لقصيدة النثر العربية، وأزعم أن هذا الجيل يضيف رصيدا مبهرا للإبداع الشعري في مصر، برغم النكران النقدي والاحتقار الإعلامي للثقافة، بحيث لم يبق أمام المبدعين (وملايين المقموعين من الناس) إلا نافذة "فيسبوك" التي استخدمها أنيس، وضمنها قصائده بتوافق بديع مع مفردات الذاكرة والتراث الشعبي القديم، وأجواء الحياة العفوية في مدن الدلتا التي اغتصبت القاهرة تاريخها:
"بالأمس انتشر ?يديو قصير عبر الفيس بوك/ ربما كان الأكثر مشاهدة:
بنت ترقص الباليه في شارع فيصل/ كان الأمر لافتا جدا / وأثار موجات من الإعجاب..
تقول صديقة: "أنا لم يعجبني ما فَعَلَتْ/ كيف ترقص هنا/ وسط هذه الضوضاء؟/ أين الموسيقى؟".
يقول نيتشه: "الذين مارسوا الرقص/ كانوا دوما حمقى ومجانين/ في أعين الذين لا يستطيعون سماع الموسيقى".
تقول صديقتي: وما الموسيقي في حضرة التوكتوك والميكروباصات/ وهرولة الوجوه المتعبة؟
أقول أنا: "من قال إن الموسيقى تأتي من الخارج فقط ؟/ ربما هي ترقص/ لأن حبيبا ما آتى/ أو لأنه لم يأتِ../ لأن قبلة ما/ ناقصة/ أو زائدة../ لأنها سكرانة/ أو فاقت من سكرتها/ في الحقيقة لم تكن البنت أصلا من لفت إنتباهي/ بل هذا الأربعيني بحقيبة ظهر سوداء/ المار بجوارها في أول ال?يديو/ كيف لم يلتفت/ ولو للحظة؟/ ربما هو متحضر جدا فلم يرد أن يفسد مزاجها/ أو هو بائس جدا/ يحمل ما هو أثقل من حقيبة/ وربما هو مثلي/ في خصام مع الموسيقى/ فأنا أيضا منذ صدقت نيتشه/ توقفت عن سماع الموسيقى/ لا لشيء/ إلا لأراقب عن كثب/ ملايين الحمقى والمجانين/ يرقصون بدأب يومي/ رقصتهم الأخيرة/ على جسد الحضارة المتداعي".
(5)
أنيس بصوته الهادئ، يمضي في طريقه كدرويش صامت نذر نفسه لمحاربة النسيان:
"وأنت تعرف/ كم هو مؤلم جدا/ أن تُهمل هكذا بسهولة/ كهمزة وصلٍ/ فلا تُكتب/ ولا تُنطق/ أو أن تُنسى/ كهدفٍ ملغي/ ليس للأمر علاقة بالنحو/ فقط لو يخبرنا أحدهم/ ماذا يفعل الجنود الآتون/ بعد انتهاء الملحمة؟".
من هذا المقتطف يبدو أن الملحمة والنسيان، وجحافل التبديل والاجتياح، وزهايمر التاريخ وسوس الذاكرة، هي أكثر ما يؤرق أحمد أنيس ويؤلمه..
"يبدو الأمرُ صعبا من بدايته../ أن تدافع عن مدينة تبدلت/ لذا فكرت أن أكذب قليلا / ثم انتبهت / لأنك صاحبي/ لذا../ سأزعم أننا أكثر براءة من حقيقتنا..
لنقل مثلا: إنها حين باعت نفسها للسماسرة الجدد/ ربما اختلط عليها أمرنا / فلم تفهم/ أن لا تعارض بين حب العاهرات، وكراهية القواد".
وليسمح لي القارئ الكريم الذي استمر في قراءة هذا المقال أن انبهه إلى مزيد من التفكير في إشكالية المعنى في الشطرة الأخيرة، كأنها رقصة على حد سكين بدون ألم أو دماء، وكأنها دعوة لمعايشة "السقوط المؤقت" من دون تفريط في النبل وجوهر الأخلاق "الغائبة".
(6)
يكتب أنيس مجموعة من الرسائل إلى صديقه المبدع أحمد سعيد يسأله في إحداها: "تذكر كم مرة غنينا مع رامبو: "الكل يبحث عن المفتاح"؟/ هكذا/ أضعنا الوقت/ أضعنا العمر/ بين الصحف والصحائف والكتب القديمة/ وبينما نتناقش في الفروق بين طبعة بيروت وطبعة بغداد/ وأيهما أفضل/ ضاعت بيروت/ ثم ضاعت بغداد/ ونسينا أن الأمر قديم جدا/ ربما من قبل ابني "آدم"/ الله أخبرنا بهذا/ على لسان الملائكة (...) البعض مهمته ابتكار طرق جديدة للقتل/ والبعض يحاول النجاة/ والبعض يبحث عن البوكيمون/ ووحدنا أضعنا العمر نبحث عن المفتاح/ يا أخي هل فكرت ولو لمرة: كم كان رامبو جميلا وصادقا/ حين تركنا ليتاجر في العبيد؟".
(7)
لا استطيع أن أنهي المقال من غير الإشارة إلى إحساس أنيس المرهف ببقايا الشهداء في زمن السوق، وأرجو أن تتهمل في القراءة وتمنح الوقت لروحك كي تحيل الكلمات إلى صور لترى المشهد وترى صورة الشهيد في المحيط الجديد، وتسمع تمتمات أنيس الصامتة/ المدوية:
"في المقهى المطل على الميدان/ صورة من بداية الحرب/ شهيد بالأبيض والأسود/ كان هذا قبل أن يتلوَّن الشهداء (...) يمكنك أن تلمح الرجل الذي يخفي الحكايات في جيوب المعطف/ الرجل الذي علقت الحرب بجلده/ وأضاع قلبه بين المولد والمسرح/ ينفث دخانه كقاطرة بوجه التجديدات التي تحاول تغيير المكان/ اختفت كتابة الجدران/ ظهرت لافتات دعائية وملصقات انتخابية/ تغيَّر مزاج الزبائن/ كثُرت مشاجرات الدومينو (...) بجوار طلاء من زمن الغارات/ كيف نجا هذا الأزرق من فخ التجديد؟ (...) بوسعك الآن أن ترى هذا: مربع مطلي بالأزرق الداكن/ ينظر إلى صورة بالأبيض والأسود/ يسأل عن الرجل الذي ترك كل شيء/ ويسخر من زبائن حمقى/ يظنون أن الحرب انتهت؟!".
(توضيح)
الاستشهادات الشعرية (بين الأقواس) مقتطفات متناثرة وليست قصائد كاملة، فلاعيب إذن أن يعتذر المقال للقصيدة.. لأن الضرورة اقتضت أن يُحَوَّلها عمدا إلى أشلاء شهيد، أو بقايا زمن حميم، ليفوح المعنى على حساب المبنى.
[email protected]