هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
في الفترة بين العشرين والخمسين من القرن العشرين، كانت القاهرة هي
حاضرة العرب والمسلمين الأهم والأبرز في العالم كله، كانت الشمس التي لا يغيب ضوؤها
عن الجميع، القمر المنير في ظلمات من الجهالة أو الاضطراب الطائفي والعرقي أو ضيق
العيش، في أغلب أنحاء العالم الإسلامي والعالم العربي، فكانت مقصدا للجميع، ومن
ذهب إلى القاهرة فقد بلغ المدى في الحظ والسعادة، وفتح لنفسه ولأسرته أفقا من
الخير في مختلف المجالات كان يصعب أن يجده في أي مكان آخر، وكل صاحب قصد أو حاجة
فكان يقصد القاهرة، واثقا أنه سيجد فيها حاجته، ويحقق فيها مقصده، سواء كان عملا
أو علما أو ثقافة أو فنا أو أدبا أو حتى سياسة يشتغل بها عندما ضاقت بلاده به.
في
القاهرة ذلك الحين، كنت تجد نفرا كثيرا من السياسيين الذين فروا من بلادهم بسبب
التضييق عليهم أو خشية حبسهم أو قتلهم، فكانت القاهرة هي "الملجأ"
والحصن والملاذ لكل صاحب قضية وطنية، سواء كان من يلاحقونه من قوى الاستعمار
الأجنبي في بلاده، أو قوى سياسية أخرى حاكمة، حتى شيخ الإسلام علي صبري، مفتي
الخلافة العثمانية، عندما خاف في اسطنبول هرب إلى القاهرة، فكانت ملجأه وملاذه،
وثائرون من الشام ومن الجزيرة العربية ومن شمال أفريقيا، كلهم كانوا في القاهرة،
تحتضنهم وتوسع لهم في عيشهم وفي أمنهم ويجدون في صحفها ومجلاتها متسعا للتعريف
بقضيتهم السياسية، ويجدون من ساسة مصر وأحزابها من يتضامن معهم ويساعدهم ويدعم
قضيتهم.
وفي
القاهرة ذلك الحين، كنت تجد نخبة العالم الإسلامي كله في العلم والدين، ومقصد
الأفذاذ من مختلف المذاهب الفقهية، يأتيها الشيخ أبو الحسن الندوي من الهند زائرا
باحثا عن رفقة قمم العلم في الأزهر، كما يقصدها العلامة التونسي محمد الخضر حسين
لكي ينهل من أنهار العلم فيها، ثم يبرع في تلك العلوم فلا يجد علماء مصر غضاضة في أن
يتبوأ أعظم مقام علمي ديني في البلاد، شيخ الأزهر الشريف، كانت القاهرة أكثر
تساميا ورقيا وإنسانية، وكان الشاب الذي يبحث عن صدارة قومه في علوم الدين فليس له
من مقصد إلا القاهرة، وكثير من صداقات العلماء من الهند إلى المغرب تنعقد في أزقة
القاهرة المملوكية القديمة وبيوتها الهانئة والغامرة بالخير والصفاء وقتها، وفي
ذلك قصص عجيبة تروى سجلتها لنا بعض كتب التأريخ لتلك الفترة.
وفي
القاهرة ذلك الحين، كانت عاصمة الثقافة والفكر والأدب العربي والإسلامي، ومقصد كل
متمرد في أي مجال فكري، وكنت تجد فيها نشطاء من جزيرة العرب لهم أفكار متحررة
وأحيانا تقترب من الإلحاد، فلا يجدون محضنا يأمنون فيه على حريتهم الفكرية إلا في
القاهرة، يغشون مجالس أهل الفكر فيها وينشرون كتبهم منها ويحررون مقالاتهم في
صحفها ومجلاتها، وكان المفكر الذي يبحث عن شهرة أو بروز في قومه فليس أمامه سوى
سبيل واحد، أن يذهب إلى القاهرة، فيشتهر في بلاده نفسها ويصبح نجما، لأنه معروف في
القاهرة !، وحكى الأديب الشامي الكبير علي طنطاوي قصصا عجيبة في هذا الشأن، وهو
ممن قصد القاهرة ونشر في بعض مجلاتها فأصبح علما بعدها، وفي القاهرة توهج أصحاب
الأفكار الخلاقة الجديدة مثل الجزائري مالك بن نبي وانتشر فكره في مختلف بلاد
العرب، وقد قابلت عددا من رفاقه المغاربة الذين سكنوا معه في القاهرة حينها فحكوا
لي قصصا كأنها الخيال.
والقاهرة
في ذلك الوقت كانت رحما ولادة بالرموز في كل فن، وحتى يومنا هذا ما زالت قوة مصر
الناعمة التي يعيش عليها أجيالها الحالية والمقبلة هي تلك النجوم التي تلألأت في
ذلك الحين، ما زالت أسماء مثل طه حسين ومصطفى صادق الرافعي وعباس محمود العقاد
ومصطفى عبد الرازق وأحمد حسن الزيات ونجيب محفوظ، وغيرهم الكثير الكثير، وأدباء
وشعراء من قامة أحمد شوقي وحافظ إبراهيم، هم الشباب الذين توهجت ملكاتهم في مناخ
القاهرة وصنعوا للثقافة العربية والأدب العربي مجدا لم يعوضوه حتى اليوم.
وكانت
القاهرة في ذلك الوقت تعيش أجواء من التسامح الفكري لا مثيل لها، ولا في الغرب
الآن، كانت هناك نخبة من أصحاب الفكر الديني السلفي، تتبارى مع نخبة من أصحاب
الفكر اللاديني المتأثرة بتيارات حديثة في الغرب، مع نخبة أخرى من الملحدين،
يتبارون بالقلم والفكر، وميدانهم الصحافة، ونفوسهم يسع بعضها بعضا، وكان من عجيب
الأمور أن تجد المفكر الملحد المشهور وقتها الدكتور عبد الرحمن بدوي صديقا لعالم
الدين السلفي المتشدد الشيخ أحمد شاكر، ويزوره في بيته ويسامره ويكرمه الشيخ وتكون
بينهما مكاتبات أخوية، لا يقطعها حماسة كل منهما لعالمه الفكري ولا دفاعه الشديد
عن أفكاره التي يؤمن بها، وكنت تجدا وقتها مؤسسة قبطية مسيحية مصرية كبيرة تلجأ
إلى أديب العربية الكبير مصطفى صادق الرافعي ـ صاحب كتاب تحت راية القرآن ـ لكي
يكتب لها ـ بأسلوبه العذب ـ كلمة خاصة بها تذيعها على أبناء الطائفة في ذكرى ميلاد
المسيح عليه السلام!.
وحتى
على مستوى الفن والفنانين، وعلى الرغم من أن القاهرة لم تكن مركزا لصناعة السينما
والفنون في البداية، إلا أن أجواء التحضر والحرية والتسامح التي تخيم على مناخها
السياسي والثقافي والديني جعلتها مقصدا لكي مشتغل بالفن من أي لون ثم أصبحت عاصمة
الفن كله، فهاجر إليها عدد كبير من الشوام الذين برعوا في فنون مختلفة، مثل الغناء
والتمثيل والمسرح وغيره، ضاقت عليهم بلادهم وما جاورها، فقصدوا مصر لكي يقدموا
فنونهم ويعرفوا العالم العربي كله بها، فظهر نجم عدد كبير منهم بعد أن كان نسيا
منسيا وهو في بلاده.
وحتى
على مستوى البنية الأساسية، بمعايير ذلك الوقت، كانت القاهرة مضرب الأمثال في
النظام والنظافة والمواصلات والخدمات كافة، بل كانت القاهرة تفوز في مسابقات دولية
بجائزة العاصمة الأكثر نظافة في العالم كله، وإذا كان بعض أبنائها يسافرون إلى
عواصم أجنبية لتحصيل العلم في بعض الجوانب، فقد كان طلاب من تلك العواصم يأتون إلى
القاهرة لتلقي العلم أيضا في جوانب أخرى، وكان في القاهرة في ذلك الحين طلاب من اليابان
ومن إيطاليا ومن إنجلترا نفسها، يدرسون بعض جوانب علوم الطب للمناطق الحارة التي
تميزت فيها جامعة القاهرة بحكم موقعها الجغرافي.
مع
الأسف، خسر العرب، قبل المصريين أنفسهم، تلك الحاضرة الإنسانية الجميلة، ضاقت
النفوس، وانحسرت العلوم والمعارف، وظهرت دولة الرأي الواحد والهوى الواحد منذ
1952، واضطربت أمور الاقتصاد وضيق العيش، فأصبحت مصر طاردة للكفاءات والمواهب،
وبدأ علماؤها يتلمسون موقعا لهم خارجها بحثا عن عيش كريم أو فرصة لنشر علمهم
وفكرهم، وتحول أدباؤها إلى ما يشبه مراسلين لصحف ومجلات كانت تصدر في بيروت أو
الخليج، وعلى الرغم من جهود عربية عديدة ومهرجانات ومؤتمرات ومؤسسات علمية وأدبية
ودينية هنا وهناك، إلا أن مدينة أخرى في طول بلاد العرب وعرضها لم تعوض غياب
القاهرة، لقد خسر العرب بخسارة تلك الحاضرة الكثير.
المصريون المصرية