كل العام والجميع
بخير، وأعبر عن أسفي وانا استقبل العيد بمقال يحوط الحزن والألم ثناياه بالحديث
عما وقع ويقع في درنة.
ففي الحروب يموت في
اليوم العشرات، وترتكب جرائم قتل غيلة ويتم تصفية الأسرى بعد تعذيبهم وإذلالهم،
ولا نسمع ولا نرى، فيكون الوقع أقل وطئة.
لكن الوضع مختلف تمام
عندما تنقل تفاصيل تلك الجرائم كاميرات التصوير وتتداول عبر وسائل الإعلام
المختلفة ليراها القاصي والداني، لعمري إن وقعها أليم وأثرها في كل الاتجاهات عظيم.
مضامين الوقائع التي
نحن بصدد نقاشها هي من المفارقات البشعة التي نجنيها من التهور والتعطش للدماء،
وهي من الممارسات التي تقترن باضطرابات نفسية حادة تظهر جلية في مثل المشاهد
اللاإنسانية التي نراها في واقعنا البائس.
الواقعة الأولى مشهد
القتل العمد لشخصين أعزلين وينطق احدهما بكلمة التوحيد وهو يواجه التهديد والقهر
النفسي، قبل أن يرمى بوابل من الرصاص في مشهد غاية في الإيلام والوحشية.
وفي واقعة أخرى لا تقل
انتهاكا لأدمية البشر يظهر جندي يمتطي أكتاف أسير في درنة ويصوب مسدسه إلى رأسه
وينظر بزهو إلى كميرا التصوير ليظهر في الصورة بأبهى منظر!!
هل ذهبت بك الذاكرة
إلى انتهاكات الجنود الأمريكان في العراق، وتلك المشاهد التي تختلط فيها الرغبة في
الانتقام بشكل عنيف والحرص على الإذلال بصورة مهينة؟
نقل هذه الوقائع
المفزعة ليس عابرا، ففي حال اعتبارها تصرفات تخص الأشخاص المتورطين فيها فإنها
تعكس غلَّا وكراهية لها علاقة بالتعبئة المبرمجة التي قادتهم للمشاركة في هذه
الحرب.
وبالتالي لا يمكن
اعتبارها تصرفات غير مسؤولة تنحصر فيمن يتورطون فيها، وفي دعوة خليفة حفتر لضباطه
وجنوده أثناء معارك بنغازي بتصفية من يقع بين أيديهم أسيرا دليل قطعي على ما
أذهب إليه في تفسير الخروقات الكبيرة.
هذا ما ذهبت إليه
تفسيرات كثير من المراقبين الأجانب عند الحكم على وقائع قتل وتعذيب العراقيين على
أيدي جنود أمريكيين، بعد أن تكررت تلك الوقائع واتخذت منحى لا يمكن اعتباره من
قبيل التصرفات الفردية.
لقد كان في الحل
السلمي مندوحة عن مشاهد القتل والفزع والكراهية التي نشاهدها كل يوم، ولامست
مبادرة "العواكله" شغاف القلوب ورحب حتى مجلس شورى درنة بها، لكن انطفأت
الشمعة دون ذكر الأسباب، والتكهن المنطقي هو أنه تم إجهاضها بعد أن عاد حفتر من
رحلة علاجه.
لقد دفعت الرغبة في
قهر إرادة الآخر بالقوة لإخضاعه كليا المبادرة السلمية خارج الحلبة، وارتهن مصير
درنة للسياسة وأدواتها وفي مقدمتها الحروب التي هي مطية لتعزيز النفوذ وإحكام على
السيطرة على المقدرات.
الانتهاكات السابق
الإشارة إليها تكررت مرات ومرات خلال السنوات الأربع الماضية على أيدي منتسبين
للجيش التابع للبرلمان، دون أن تتخذ أي إجراءات عقابية رادعة، وكل ما يقع هو فتح
تحقيق وذلك عندما تأخذ الحوادث بعدا دوليا وتتناقلها الصحافة الأجنبية وتتعامل
معها بعض المنظمات الحقوقية العالمية.
وأعود لأقول أن تكرار
هذه الوقائع المروعة يؤكد أنها جزء من منظومة تفكير تحكم عقيدة قادة الجيش وتنتقل
منهم عبر طرق شتى إلى الجنود والمتطوعين، فنراها منتشرة ومتكررة وتزداد عنفا
وبشاعة،
الأثار الخطيرة
للممارسات الوحشية الممنهجة لا يمكن أن تنتهي بانتهاء المعارك، ذلك أنها تصبح
اتجاها لدى النخبة العسكرية المتحكمة في القرار وتستخدمها كوسيلة تعبئة لتحقيق
أهدافها، وستستمر في استخدامها في غير زمن الحروب ضد كل ما يخالفها أو حتى يتحفظ
على القادم من سياساتها وقراراتها التي لا يمكن أن تكون إلا مكرسة للاستبداد وحكم
الفرد.
درنة يمكن أن تتنفس
الصعداء قليلا ولو لفترة محدودة بفعل التطورات في مثلث الحقول والموانئ النفطية
بعد أن نجح تجمع عسكري كبير نسبيا من السيطرة عليها، والعملية الخاطفة تشكل ضربة
قوية لحفتر ومشروعه القائم على التحكم بأوراق اللعب السياسية من خلال تعزيز النفوذ
العسكري على الأرض.
حفتر يحتاج وبشكل عاجل
أن يحشد قواته لإعادة السيطرة على تلك المنطقة الاستراتيجية، ولا يمكن أن ينجح في
ذلك دون غطاء جوي خارجي، فالقوة المهاجمة نجحت في السيطرة على أهم القواعد
المجاورة التي تنطلق منها الطائرات الحربية، ويعسر على مقاتلات حفتر الإغارة من
قاعدة بنينا ببنغازي والعودة لقواعدها لبعد المسافة.
قواته على الأرض أضعف
من أن تفرض إرادتها، وكانت خسائر الجيش التابع للبرلمان كبيرة في كل المعارك
البرية التي لم يسبقها قصف جوي مكثف لأيام، ولأن هناك مساندة كبيرة للقوة المهاجمة
من قبل جناح عريض من قبيلة المغاربة، وهي القبلية التي تنتشر بكثافة في منطقة حقول
وموانئ النفط، فإن المواجهة ربما تأخذ حربا بين قبائل برقة، وهذه مسألة شديدة
الحساسية قد يكون لها تأثيرا في قرار الزحف البري وإشعال حرب كبيرة.
إذاً لابد من العون
الخارجي، وهنا ينبغي الأخذ في الاعتبار أنه لا يمكن أن تتقدم قوة باتجاه الحقول
والموانئ النفطية بهذا الحجم بعد ثلاث تجارب سابقة منيت بفشل ذريع إلا في حال تلقت
ضوءا أخضر من طرف أو أطراف دولية حضورها في المشهد قد يدفع إلى إحجام الأطراف
الداعمة لحفتر من التدخل الجوي المكثف.
لاحظ معي أن باريس
أعلنت إدانتها الشديدة للهجوم على الحقول والموانئ، ومن يريد ويستطيع أن يردع لا
يدين، وهذا ما كان يقع في السابق.
أضف إلى ذلك تأخر
إدانة الهجوم من قبل الأطراف الأوروبية الأخرى وقصر الموقف على التعبير عن القلق
والتحذير من العواقب من قبل بعض السفراء الأوروبيين، وفي حال استمر غموض موقف
العواصم الأوروبية والولايات المتحدة، فأقل ما يقال أن خلافا واقع بينها حول الدور
الفرنسي في الأزمة الليبية والخلاف تطور إلى ممارسة ضغوط على الأرض.
حفتر لا يمكن أن يقبل
بالوضع الجديد، ويمكن أن يسحب جزءا كبيرا من قواته في درنة ليدفع بها إلى منطقة
الهلال النفطي، وسترتهن قدرته على استعادة الحقول والموانئ إلى تفاهمات بين
الأطراف الدولية، ولأنه ليس من المستبعد أن تقع تلك التفاهمات، فإن هناك احتمال أن
تواجه القوة المهاجمة ضغوط تبدأ بالطلب الملزم بالانسحاب وقد تتطور إلى عملية جوية
تدفعها إلى التراجع.