هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
بحسب التطورات الدراماتيكية الأخيرة المتعلقة بالانتخابات ونتائجها، يبدو أننا سنكون مرة أخرى أمام فراغ دستوري، أي نهاية ولاية مجلس النواب الحالي في 30 يونيو/حزيران 2018، من دون وجود مجلس نواب جديد ونتائج انتخابات مصادق عليها. فعمليات العد والفرز اليدوي ستحتاج إلى ثلاثة أسابيع على أقل تقدير لإنجازها في أفضل الأحوال، وسندخل بعدها في الطعون ومشكلاتها القانونية لاسيما أن القضاء الذي يفترض أن يبت في هذه الطعون هو الذي تولى مهمة المفوضية العليا المستقلة للانتخابات؟ وهذا الفراغ الدستوري سيجعلنا ندخل مرة أخرى في أزمة حقيقية حول توصيف طبيعة حكومة حيدر العبادي: هل هي حكومة كاملة الولاية، أم حكومة تصريف أمور يومية؟
سبق للعراق أن واجه المأزق نفسه في العام 2010، عندما انتهت ولاية مجلس النواب في 15 آذار/ مارس 2010 ولم يجتمع البرلمان المنتخب إلا في 14 حزيران/ يونيو 2010 وليبقي الجلسة مفتوحة لمدة خمسة أشهر تقريبا، وصولا إلى استئناف اجتماعاته في 11 تشرين الثاني/ نوفمبر 2010. وظل الاختلاف حينها محصورا في إطاره السياسي، ولم يسع أي طرف لمقاربة الموضوع قانونيا، لا من طرف القائلين بحكومة تصريف الأعمال، ولا من طرف المدافعين عن مقولة الولاية الكاملة. وكعادة الأطراف المعنية فإن تأويل المواد الدستورية يتم وفقا للرغبات ووجهات النظر! بل إنهم تواطأوا على استخدام مصطلح لا وجود له في الدستور، إذ لا يرد مصطلح «تصريف الأعمال» وإنما مصطلح «تصريف الأمور اليومية» (المادة 61/ثامنا/ب/د والمادة 64/ثانيا). وكعادتها أيضا ظلت المحكمة الاتحادية بعيدة عن هذا الجدل الدستوري المفترض، لا بل إنها رفضت النظر في سؤال حول الموضوع لأسباب شكلية بحت.
يعرف الدستور العراقي في مادته الأولى نظام الحكم في العراق بأنه «جمهوري نيابي (برلماني) ديمقراطي». لهذا كان المشرع حريصا على عدم حصول أي فراغ دستوري من خلال ربط مسألة مدة الدورة الانتخابية للبرلمان المحددة بأربع سنوات تقويمية، بضرورة أن تجري الانتخابات البرلمانية «قبل خمسة وأربعين يوما من تاريخ انتهاء الدورة الانتخابية اللاحقة»، وهي إحدى «قوارير الإسلام» التي شبعت تكسيرا خلال السنوات الماضية!
وحيث أن نظام الحكم نيابي، فإن أي «حل» لمجلس النواب يطيح بالضرورة بكامل النظام السياسي الناتج عنه حكما، فقد نصت المادة 64/ ثانيا على أنه عند حل مجلس النواب «يعد مجلس الوزراء في هذه الحالة مستقيلا ويواصل تصريف الأمور اليومية». على الرغم من أن المادة نفسها اشترطت أن يتم إجراء الانتخابات خلال مدة أقصاها 60 يوما، أي أن المشرع لم ير أي إمكانية لكي يمارس مجلس الوزراء ولايته السياسية الكاملة خلال هذه المدة المحددة زمنيا من دون وجود مجلس نيابي. ببساطة لأن مبدأ الفصل بين السلطات، وهو المبدأ الأول للدولة الحديثة، والذي اعتمده الدستور العراقي، يعني التوزيع المتوازن للسلطة بين السلطات الثلاثة، وتفعيل الرقابة المتبادلة بينها: Power should be a check to power، وإن احتكار أي من هذه السلطات للسلطة، يهدد بإحلال الاستبداد والطغيان محل القانون.
احتج مؤيدو مقولة الولاية الكاملة لحكومة المالكي بعد نهاية الدورة الانتخابية لمجلس النواب في 15/3/2010، بأنه لم يرد نص صريح في الدستور يشير إلى أن الحكومة بعد هذا التاريخ هي حكومة «تصريف أمور يومية»، بدون الالتفات إلى السياق الكامل الذي يصف نظام الحكم في العراق، أو الرجوع إلى المحكمة الاتحادية للفصل في هذه المسألة. ولم نجد سوى محاولة يتيمة قام بها مكتب طارق الهاشمي للرجوع إلى المحكمة الاتحادية في هذه المسألة، ولكن المحكمة ردت الطلب شكلا، بسبب عدم توقيع الهاشمي على طلب مكتبه، أما باقي الأطراف فلم يفكروا في اللجوء إلى المحكمة الاتحادية، ومن ثم ظل الأمر جزءا من الصراع السياسي بين الأطراف المختلفة، أكثر منه رغبة أو حرصا على الوصول إلى تفسير واضح للمشكلة، بوصفه جزءا من مبدأ احترام حكم القانون! ذلك أن الأول يحتمل المساومات والتوافقات، في حين لا يحتمل الثاني شيئا من هذا من حيث المبدأ.
قانونيا، لم يكن ثمة توصيف لحكومة تصريف الأمور اليومية Run everyday business / تصريف الأعمال care-taker government ، لقد أوضح الدستور أن هذه الحكومة يجب أن تكون ملزمة بتوقيتات محددة، ففي الموضعين/المادتين اللتين ذكر فيهما المصطلح كنا بإزاء تحديدات زمنية صريحة، ثلاثون يوما (المادة 61/ثامنا/ب/د)، وستون يوما (المادة 64/ثانيا)، بمعنى أن المشرع كان حريصا على أن لا تكون مدة هكذا حكومة طويلة. ولكن ليس ثمة توصيف لما تعنيه جملة «الأعمال اليومية»، والأدبيات المتعلقة بهذا الموضوع تشير جميعها إلى أن هكذا حكومة، ومن وجهة نظر أخلاقية، وليست قانونية حسب، تبقى في حدود الحد الأدنى الذي لا يلزم الحكومة المقبلة مستقبلا، وتحديدا فيما يتعلق بالالتزامات المالية.
في مواجهة هذا الفراغ الدستوري، أو في محاولة للإفادة منه، تقوم بعض القوى السياسية بمحاولة لتسويق فكرة أن الدستور العراقي، في تحديده لولاية مجلس النواب بأربع سنوات تقويمية تبدأ بأول جلسة وتنتهي بنهاية السنة الرابعة، لا تعني عدم جواز تمديد هذه الولاية، وبالتالي ليس ثمة مانع من تمديد عمل مجلس النواب القائم! وهم يتعكزون، في هذا التأويل المفرط، على حالة التمديد لمجلس النواب اللبناني بشكل خاص، دون الانتباه إلى أن الدستور اللبناني لم يشر مطلقا إلى مدة ولاية المجلس النيابي! وأن المجلس الدستوري اللبناني قد قرر بالإجماع عدم دستورية قانون تمديد ولاية مجلس النواب اللبناني استنادا إلى أن دورية الانتخابات مبدأ دستوري لا يجوز المساس به (القرار رقم 7/2014).
إن مراجعة سريعة لدساتير الديمقراطيات العريقة، يكشف بوضوح انه ليس ثمة ما يتيح تمديد ولاية المجالس النيابية، لأن هكذا مادة ستتناقض مع مبدأ حق الشعب في اختيار ممثليه بشكل دوري! وهذا يعني، أيضا، أن مبدا التمديد في الفقه الدستوري غير دستوري أصلا! كما أن مراجعة دساتير المنطقة تكشف عن وجود بعض النصوص الدستورية التي تتيح مثل هذا التمديد بشروط محددة (حالة الحرب كما في الدستور السوري والكويتي، أو تعذر إجراء الانتخابات بسبب ظروف قاهرة كما في الدستور الجزائري والتونسي واليمني)،
وكما هو واضح فإن تقرير إمكانية التمديد من عدمها، يجب أن يكون حاضرا في النص الدستوري نفسه، وبعكسه لا إمكانية دستورية للتمديد.
ليس ثمة جديد في المشهد العراقي، فنحن أمام عجز حقيقي عن إنتاج دولة! وهذا العجز يجعل الجميع في سياق تواطؤ لاستمرار حالة اللادولة عبر صفقات سياسية مؤقتة ينتجها بازار تحالفات ما بعد الانتخابات الذي شرع أبوابه لإنتاج خلطة العطار التقليدية!