عندما بدأت عرض جوانب من كتاب "نظام التفاهة" للمفكر الكندي ألن دونو، لم يكن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو قد قدم دليلا جديدا على أنه من دعائم نظام التفاهة العالمي، والذي تعزز بانتخاب دونالد أبو جهل ترامب رئيسا للولايات المتحدة، وهو الرجل عاشق التغريد خارج السرب، وفارس العبث بأعظم منتجات التكنولوجيا المعاصرة- الإنترنت، الذي أعاد إحياء خدمة التلغراف.
ظهرت خدمة البرقيات التلغراف عام 1840، وكانت تقوم على شيفرة مورس، ومثلت ثورة في عالم الاتصالات (ولهذا كانت التسمية العربية للخدمة "البرقية" دقيقة، لأن الكلمة مشتقة من سرعة البرق، لأن البرقيات كانت تصل الوجهة المقصودة خلال ثوان معدودة)، وبظهور الفاكس (قدم الاتحاد العربي للاتصالات ترجمة في منتهى السخف لهذه الخدمة هي "الطبقصلة"، زاعما أنها اختصار لعبارة طبق الأصل)، ثم الإنترنت والبريد الإلكتروني والهواتف الذكية، تم تشييع نظام البرق إلى مثواه الأخير في فبراير من عام 2007، وإن كان بعض الهواة ما زالوا يستخدمون شيفرة مورس للتواصل الاجتماعي من باب "من نسي قديمه تاه".
بعد نحو ربع قرن من شيوع الإنترنت، ظهرت خدمة تويتر للرسائل القصيرة، التي لا تزيد عدد حروف الواحدة منها عن 140 حرفا، وظلت الخدمة ولا تزال في معظمها أداة للدردشة الخفيفة، أو إبداء وجهات النظر في عبارات موجزة غير "متعمقة"، ولكن ترامب جعل تويتر وسيلة لتصريف شؤون الحكم والعلاقات الدولية.
وفي ظل نظام التفاهة الذي نتج عن العولمة وتسليع كل شيء، رفعت تويتر عدد الكلمات المسموح بها إلى 280 كلمة، حتى يستطيع ترامب أن يهذي "على راحته" لفترة أطول، فما من زبون لهذه الخدمة في "قامة" ترامب، بدليل أن عدد متابعي تغريداته بلغ 52 مليونا، بعد أن كانوا دون المليون قبل دخوله معترك السياسة.
قبل اقل من أسبوعين دعا بنيامين نتنياهو وكالات ووسائل الإعلام إلى مؤتمر صحفي قال عن إنه خطير، ونجح في الإبقاء على مئات الملايين من البشر في حالة ترقب وتوتر، ثم جاءت لحظة الحقيقة، وبدأ الحاوي نتنياهو سلسلة من الألعاب البهلوانية التي جعلت حدقات العيون تتسع، ونبضات القلوب تتسارع.
كان الأمر يتعلق بكنز زنته نصف طن من الوثائق، حصلت عليه المخابرات الإسرائيلية من مستودع إيراني سري يتعلق ببرامج إيران النووية، وظل نتنياهو يتوسط المشهد وهو يتقمص دور قائد أوركسترا كونية، تعزف أنشودة نعي إيران، بعد أن يقوم المجتمع الدولي بوأدها (إيران)، في ظل ما تكشف عنه مئات الآلاف من الوثائق.
تولى نتنياهو ترجمة الوثائق المكتوبة بالفارسية إلى الإنجليزية، وكان يخرج عن النص كل بضع دقائق، ليذكر المجتمع الدولي أنه كان على حق عندما ظل يحذره من أن إيران لا يمكن الوثوق بها، وأنها قوة نووية في طور الشرنقة وستتطور قريبا إلى دودة كاملة تنهش الشرق الأوسط بأكمله.
ليس مُهماً أن نتنياهو لم يقل هل شفطت المخابرات الإسرائيلية تلك الوثائق بمكنسة كهربائية عملاقة موصلة بقمر صناعي، أم أن عملاءها كسروا أقفال المستودع الذي كانت فيه تلك الوثائق محفوظة، أم أن إيرانيا يحمل مفاتيح المستودع قام بفتح الأقفال، وتسليم الكنز للإسرائيليين، الذين نقلوا محتوياته بطائرة شفافة غير مرئية إلى خارج إيران؟.
المهم أن تلك الوثائق تقول صراحة إن إيران كانت تخطط قبل عام 2015 لتخصيب اليورانيوم بما يجعلها قادرة على إنتاج سلاح نووي، مما يعني أن إسرائيل لم تحصل على أي وثيقة تشير إلى أن إيران خرقت تعهداتها الدولية، بعدم تطوير سلاح نووي.
أدرك القادة الذين وقعوا مع إيران الاتفاق القاضي بإخضاع برنامج إيران النووي للرقابة الدولية، أن نتنياهو عجز حتى عن مجاراة بوليوود الهندية التي تنتج عشرة أفلام روائية لا تحترم العقل يوميا، بل إن جميع وسائل الإعلام الغربية قالت إن نتنياهو أراد بإنتاج ذلك الفيلم الركيك، لحس عقول الناخبين الإسرائيليين، وهم يتأهبون لانتخاب حكومة جديدة، وهو يتأهب لمواجهة القضاء متهما بقضايا فساد مالي.
ولكن سلطان نظام التفاهة – دونالد ترامب- رأى أن ما قاله المهرج نتنياهو، هو الحق المحصحص، الذي يثبت أنه كان دائما على حق عندما نادى بنقض الاتفاق النووي مع إيران، وتأسيسا على ذلك قام يوم الخميس الماضي بنقض الاتفاق من جانب واحد دون أن يأبه بأن ذلك نقض لعهد دولي.
نظام التفاهة الذي تحدث عنه ألن دونو يقوم على الضجيج والتهريج، ولا مكان فيه لذي عقل أو فكر، وهكذا غرق الاتفاق النووي مع إيران في دوامة من العنتريات اللفظية المتشنجة، مؤداها أن إيران خطر على أمن المجتمع الدولي ولابد من مواجهتها بوسائل غير دبلوماسية.
علة هذا المنطق الأخرق، هي أنه لا إسرائيل ولا واشنطن تستطيع أن تضرب حتى مصنعا إيرانيا لتحويل نوى التمر إلى علف للحيوانات، وإيران بلد فيه حكومتان إحداهما عميقة وغير منتخبة وهي الأقوى، وأخرى منتخبة ولكن "سطحية" بمعنى ظاهرة للعيان تحاول أن تكون متوازنة وعقلانية.
وملالي إيران وجنرالات الحكومة العميقة لا يقلون نزقا عن ترامب، وهم "على الهبشة"، ولم يكونوا أصلا مرحبين بتعهدات بلادهم الدولية بكبح برنامجها النووي، وبالتالي فإن ترامب ونتنياهو هما من يخدمان أجندة الجناح غير المنتخب من حكام إيران، الذين يحسبون أنهم مكلفون بالتمهيد لظهور "المهدي".
رئيس كوريا الجنوبية نجح في إقناع نظيره المجنون في الشطر الشمالي من شبه الجزيرة الكورية، بالتخلي عن اختبار عضلات بلاده النووية والصاروخية، ولكن التافه بأمر الله- ترامب- سرعان ما أعلن أنه لولا تغريداته التويترية لما عادت كوريا الشمالية إلى الرشد، ولأنه وبمقتضى فقه التفاهة معنيٌّ فقط بالبقاء في دائرة الضوء، فقد قرر أن يلتقي بالرئيس الكوري الشمالي في سنغافورة في منتصف الشهر المقبل، وبعدها يحق له أن يعلن أنه – وليس الرئيس الكوري الجنوبي من قام بترويض "الشمالي" كيم جونغ أون.
وهذا الأخير أيضا دليل حي على أن نظام التفاهة تمدد بعرض الكرة الأرضية، فهو يبذل موارد بلاده الهزيلة على التسلح، وشعبه يعاني من الهزال بسبب سوء التغذية، وفي حزيران/ يونيو المقبل سيوافق شن طبقه في سنغافورة.