في تفسير طبيعة الضربة الأمريكية

اختلف الكثيرون حول طبيعة الضربة الأمريكية للمقرات عسكرية تابعة للنظام السوري، بين من اعتبرها رسالة قوية لروسيا وبين من اعتبرها ضربة محدودة لحفظ ماء وجه ترامب، فيما ذهب موالون للمحور الإيراني السوري بأنها ضربة لا قيمة لها من الناحية الاستراتيجية ولا تغير في موازين القوى القائمة على الأرض.
 
لا شك أن الضربة الأمريكية عكست كل هذه المواقف والتحليلات، فلم تكن ضربة شاملة وواسعة، ولم تكن في نفس الوقت ضربة تافهة كما كان الأمر مع مطار الشعيرات العام الماضي، إنها كافية لإيصال الرسائل السياسية والعسكرية المطلوبة، وهذه هي مهمة الضربة.
 
الغريب في الأمر وبعد سنوات الأزمة السورية، أن البعض، ومنهم المعارضة السورية بشقيها السياسي والعسكري، قاموا بتحليل الضربة الأمريكية بناء على رغباتهم الشخصية لا على فهم المصالح الأمريكية العليا في سوريا والمنطقة.
 
هل هدف الضربات الأمريكية إسقاط النظام السوري عسكريا؟ وهل هدفها تحجيم القدرات العسكرية للنظام؟ إذا كان الجواب بالنفي، وهو كذلك، فطبيعي أن تكون الضربات محدودة، لأن البنية العسكرية للنظام لا تتحمل ضربات واسعة بعد استنزافها طيلة السنوات السابقة وبعد الضربات التي تعرضت لها من إسرائيل، لاسيما هجوم فبراير الماضي الذي دمر تقريبا ربع الدفاعات الصاروخية للنظام.
 
ولعل تأخير الضربة أيام قليلة كان مقصودا لتحقيق عدة أمور، الأول السماح للنظام بنقل ما يمكن نقله من معداته العسكرية، وثانيا منح الروس فرص لإعادة نشر قواتهم بعيدا عن مكان الضربات، وثالثا على أمل بلورة تفاهم مع الروس يتجاوز المسألة الكيماوية، ورابعا الحصول على مشاركة دولية واسعة قدر المستطاع.
 
إن هدف الضربة العسكرية في الظاهر هو ترسيخ ردع قوي ضد إنتاج ونشر واستخدام أسلحة كيماوية حسب ما أعلنت واشنطن، وتحقيقا لهذا الهدف تم استهداف ثلاثة أهداف رئيسية، هي: مركز للأبحاث العلمية بالقرب من دمشق على صلة بإنتاج الأسلحة الكيميائية، ومنشأة لتخزين أسلحة كيميائية بالقرب من مدينة حمص، ومركز قيادة على مقربة من العاصمة.
 
لكن الهدف الحقيقي للضربة الأمريكية يتعدى المسألة الكيماوية، إنه مرتبط بتثبيت الخط الأحمر الأمريكي المعلن والمضمر ولو بقوة السلاح، وقبل هذه الضربة حصل تطورين مهمين في الساحة السورية، الأول رد الفعل العسكري الأمريكي العنيف على محاولة ميليشيات تابعة لإيران اختراق الخط الأحمر المضمر الذي وضعته واشنطن شرقي الفرات بمحاولتهم اقتحام حقل كونيكو في ديرالزور، والثاني رد الفعل العسكري الإسرائيلي على اختراق طائرة من دون طيار إيرانية محملة بالسلاح الأجواء الإسرائيلية.
 
الضربة العسكرية الأمريكية الأخيرة بمثابة الرسالة القوية للروس بضرورة فهم موازين القوى والحدود المسموح التحرك فيها، وكان كيماوي دوما فرصة لإيصال هذه الرسائل، وهنا ليس مهما ما إذا كان النظام نفذ الضربة الكيماوية بالفعل أم لم ينفذها، ففي بيئة يصعب التحقيق فيها من صحة الجهة المسؤولة تتحول المناسبة إلى فرصة سياسية للتعبير عنها بأدوات عسكرية. 
 
وقال ترامب بكل وضوح إن الضربة رسالة للرئيس بوتين "هجوم الأسد الكيمياوي والرد اليوم هما نتيجة مباشرة لفشل روسيا في الوفاء بوعودها"، وقام وزير الخارجية الفرنسي بالتعبير عن نفس الموقف "لست متأكدا أن بشار يسمع كل شيء، لكنني أعتقد أن فلاديمير بوتين قادر على سماع هذه الرسائل".
 
باختصار ليس المطلوب أمريكيا إنهاء الحرب في سوريا، ولا وقف عمليات القتل، ولا وقف معارك المحور الروسي، فقد قتل مئات الآلاف بالأسلحة التقليدية، وإنما المطلوب عدم تجاهل الحضور الأمريكي في الساحة السورية مع انتهاء أطراف الصراع من تثبيت مناطق نفوذهم والاستعداد للانتقال إلى مرحلة ما بعد تثبيت مناطق النفوذ، مع ما يستدعيه ذلك من حصول اشتباكات بين الروس والأمريكان عبر وكلائهما على الأرض.
 
كما أن للضربة الأمريكية أهداف تتجاوز الجغرافية السورية حين يتعلق الأمر بالمصالح العليا لإسرائيل، فمن الضروري القضاء على السلاح الكيماوي السوري نهائيا أو على الأقل تعطيله، ولم تكن صدفة أن تقوم واشنطن بعيد الضربة مباشرة بتقديم مشروع قرار في مجلس الأمن حول تشكيل لجنة تحقيق دولية مستقلة للتحقق من برنامج السلاح الكيماوي في سوريا.
 
وكانت روسيا رفضت قبل أيام مشروع قرار أمريكي وسويدي بذات الشأن لأنه يسمح للمجتمع الدولي باختراق البنية العسكرية للنظام، فقد طالب مشروع القرار الأمريكي بالكشف عن مسار حركة الطيران الحربي للنظام وعن أسماء الطيارين، وفتح جميع المراكز العسكرية أمام اللجنة، والتحقيق مع أي مسؤول عسكري، وهذه مطالب اعتبرها المندوب الروسي في مجلس الأمن بالاستفزازية والمستحيلة.