هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
وزارة الدِّفاع الرُّوسية تعلنُ انتهاءَ العمليّات العسكريّة في مدينة دوما في الغوطة الشَّرقيَّة، والتَّوصُّلَ لاتفاقٍ مع جيش الإسلام ينصُّ على خروج مقاتلي جيش الإسلام مع عائلاتهم إلى الشّمال السُّوري، ويأتي الإعلانُ الرُّوسي عقب مجزرة الكيماوي التي ارتكبها النّظام السُّوري وذهب ضحيتها العشرات معظمهم أطفال.
وبعيداً عن ردود الفعل الدّوليّة تجاه مجزرة الكيماوي ينبغي بدايةً التّأكيد على حقيقة معرفة الرّوس التّامّة بالضَّربة الكيماويّة قبل وقوعها وربّما أعطى الرُّوسُ الأوامر للنظام بتنفيذها، فسورية خاضعة لروسيا عسكرياً حتّى أنّ زيارة الأسد الأخيرة للغوطة تمّت بحماية روسيّة، وهذا يستوجب البحث عن تفسيرٍ منطقي لهذه المجزرة، فمعارك الغوطة فعليّاً انتهت، ومدينة دوما ساقطة عسكرياً قبل مجزرة الكيماوي، وقبول مقاتلي جيش الإسلام الخروج بالباصات الخضراء مسألة وقت، فلماذا استخدم النِّظام "غاز الأعصاب" والأمور العسكريّة تسير لصالحه؟!
تَحمِلُ مجزرةُ الكيماوي في ثناياها رسائل سياسيّة روسيّة تختبر من خلالها أطرافاً ولاعبين في القضيّة السُّوريَّة رغم إعلان الخارجية الروسيّة أنّ المزاعمَ حول هجوم كيميائي في سورية زائفة ومحاولة لحماية الإرهابيين وتبرير الاستخدام الخارجي للقوة. فاستعمال السلاح الكيماوي يجري ضمن عمليّة ممنهجة ومدروسة فالروس الذين نفوا عام 2013م استخدامَ النِّظامِ السُّوري الكيماوي كانوا عرّابي اتّفاق تسليم السِّلاح الكيماوي حينها في صفقة مخزية يندى لها تاريخ البشريّة المعاصر حيث تمّ تسليم سلاح جريمة تُعد من أفظع الجرائم في القرن الحادي والعشرين وإفلات المجرم من العقاب، فلا قيمة في هذا المقام لنفي "الأكاذيب" الروسية.
وتنسجم الرَّسائلُ الروسيَّة مع العقليّة السياسيّة والعسكريّة لصاحب القرار الرُّوسي رغم أنّها قد تبدو غير منطقيّة فمن ساوم على مجزرة الغوطة في آب 2013م نفسه من غطَّى على مجزرة خان شيخون وذاته الذي استخدم غاز الأعصاب في أوربا ضد مواطنين روس.
الرِّسالة الأولى لمن تبقى من معارضة سورية فحواها استعداد روسيا تجاوز إجرام تجربة غروزني، فروسيا لا تقبل أنصاف الحلول، وبالتّالي ليس أمام المعارضة السُّوريّة سوى الاستسلام والقبول بالحلول الرُّوسية أياً كان شكلها وإلا الموت ولو بغير دماء، وروسيا هنا مستعدة للدفاع عن الأسد وجرائمه مهما كانت الوسيلة ولن تسمح لأحد المساس به وليس أدلُّ على ذلك من الاستخدام المتكرر للكيماوي.
أمّا رسالة الاختبار الثّانية فهي موجهة للحليف التّركي الذي ما زال يختلف مع الرُّوس حول نقاط كثيرة رغم تكرار القمم المشتركة ولقاءات أستانة واتفاقات خفض التّصعيد، ولعلّ نقطة مستقبل الأسد أبرز نقاط الخلاف، وبدا ذلك واضحاً في قمّة أنقرة الأخيرة قبل أيّام، فالرُّوس يريدون قياس الموقف التركي، وسيكشف هذا الموقف كثيراً من أفق التَّعاون الرُّوسي التّركي في سورية.
أمَّا الاختبار الحقيقي فكان للرئيس الأمريكي ترامب وبدرجة أقل للرئيس الفرنسي فقد تعهد الرئيسان سابقاً بمعاقبة الأسد إذا ثبت استخدامه للسلاح الكيماوي.
باختصار يريد الرُّوس اختبار موقف الجميع تجاه الرُّؤية الروسيَّة للحلّ، رؤية تقوم على سحق المعارضة وإعادة تأهيل الأسد ولو على جثث السُّوريين وركام وطنهم.
لا تمتلك المعارضة السُّورية خيارات كثيرة لمواجهة التّوحُش الرُّوسي ولا سيما بعد انقطاع الدّعم العسكري عنها، وتغيير الحلفاء لمواقفهم السِّياسيَّة التي كان آخرها موقف ولي العهد السّعودي من بقاء الأسد، ولكن رغم ذلك لم ينجح الرُّوس -حتّى الآن- في بلورة حلّ سياسي يجمع النّظام والمعارضة، ويُقدَّمُ للعالم على أنّه إنجاز ناجح للسياسة الرّوسيَّة، فمؤتمرات جنيف تفشل، وكذلك مؤتمر "سوتشي" فشل في تقديم رؤية للحل، واللجنة الدّستوريّة التي يتمّ الحديث عنها تواجه عقبات كثيرة جدّاً، إلّا أنّ المعارضة السّوريّة ما زالت رغم الضّغوط تتمسك بخيار النّأي عن المشاريع الرّوسية التي تشرعن سلطة الأسد وتبقيها.
وتقف الحكومةُ التّركيّة في موقف لا تُحسد عليه أبداً ففي الوقت الذي يطالبُ فيه الرَّئيسُ التّركي الغربَ بالالتفات للقتلى الأبرياء الذين يقتلون في الغوطة. ويأمل رئيس وزرائه بكر بوزداغ ألّا يمرَّ الهجوم الكيميائي الذي نفذه النِّظام السُّوري من دون رد هذه المرة أيضًا. يجد الأتراك شركاءهم الروس ينفون حدوث هجوم كيماوي، ويتهمون الولايات المتحدة باتّخاذه ذريعة لعرقلة خروج مقاتلي جيش الإسلام.
اختلاف الموقف الرّوسي التّركي من مجزرة الكيماوي يؤكِّدُ أنَّ الخلافات القادمة ستكون أعمق فالرّوس كالإيرانيين تماماً في تقييم الوجود التّركي على الأرض السّورية إذ يعتبرانه وجوداً غير شرعي مع فارق أنّ إيران أعلنت ذلك صراحة بينما يُؤجل الرّوس الإعلان نظراً للمصالح الحاليّة.
إن تماشى الأتراك مع مناطق خفض التّصعيد لتحقيق مكاسب على مستوى الأمن القومي سابقاً فإنّ المراحل القادمة لن تجلب شيئاً للأتراك بل ستنعكس وبالاً فتركيا لا يمكن أن تمضي بعيداً عن الغرب مهما بلغت الخلافات، ولا تستطيع مجاملة الروس في قضايا الدستور وإعادة تأهيل الأسد.
وفهمَ الأمريكانُ الرّسالة جيداً لذلك كان ردّهم سريعاً حيث حمّلوا الرّوسَ والإيرانيين المسؤوليّة فقال ترامب: الرّئيس بوتين وروسيا وإيران مسؤولون عن دعم الحيوان الأسد. وتوعّد الأسد بدفع الثمن باهظاً.
ونسفت الضَّربة الكيماوية فكرة سحب ترامب لقوات بلاده من سوريّة، فقد ظنّ الروسُ أنَّ اقتراح ترامب يعني الموافقة على تفرّد روسيا بالمسألة السورية بينما الحقيقة أنَّ طرح ترامب هدفه ابتزاز بعض الدول، وقد نجح في مسعاه لكنّه لن يترك السّاحة للروس.
ويمثل الموقف الأمريكي قاطرة لموقف الغرب، فالموقف الفرنسي الباهت تغيّر بمجرّد تصعيد الولايات المتحدة لهجتها.
مهما امتلكت روسيّا من قوّة إلّا أنَّها لن تستطيع فرض حلّها السياسي لأنّه ليس حلاً ويصطدم مع مصالح السوريين ودول إقليميّة ودوليّة، وستجد نفسها قريباً غارقة في المستنقع السُّوري، فالمسألة لا تقف عند حلب الشرقية والغوطة فهناك القنيطرة ودرعا وإدلب وريف حلب الغربي والشمالي وشرق سورية وصولاً للتنف وكلّها مناطق مفتوحة لا تقبل الحصار كحلب الشرقيّة والغوطة، والسيطرة على هذه المناطق كلها مستحيل للروس لأنّها خاضعة فعليّاً لقوًى لا تجرؤ روسيا على مهاجمتها "الولايات المتحدة" أو دول تحرص على كسب ودّها "تركيا".
إنّ مجزرة الكيماوي تثبت مجدداً استحالة تأهيل نظام الأسد، وصعوبة نجاح الرّوس في هيكلة حلٍّ سياسي وفق المعطيات الحالية.