قضايا وآراء

إذ يصبح المجتمع صامتا.. خائفا.. مجزأ

هشام الحمامي
1300x600
1300x600

(ناعومي وولف/ 55 عاما) كاتبة أمريكية معروفة، وذات حضور ناشط في المجال السياسي والاجتماعي، ولها دراسة هامة عما يمكن تسميته (تصنيع الخوف)، وتزايد مساحات تأثير هذه الصناعة الرديئة فى الفترة الأخيرة في مجتمعات العالم كله وليس العالم الثالث فقط، تضمنها كتابها الأكثر شهرة(نهاية أمريكا)، التي قدمت فيه نظرة تاريخية على الاستبداد والفاشية، وإحكام السيطرة.

تحدثت في الكتاب عن الخطوات العشر الضرورية للحاكم المتسلط لتدمير الطابع الديمقراطي لبلاده، وتخريب الحرية الاجتماعية والسياسية لشعبه، وهي: استدعاء ثقافة الخوف/ إنشاء سجون سرية لممارسة التعذيب/ تطوير طبقة اجتماعية للبلطجة أو قوة شبه عسكرية غير مسؤولة أمام المواطنين أو أمام أي جهة قانونية/ إنشاء نظام محكم للمراقبة الداخلية/ تضييق المجال العام/ التوسع في الاعتقال التعسفي ونشره/ استهداف الأفراد الرئيسيين في المجتمع بالإيذاء والاعتقال والتشويه/ السيطرة على الصحافة/ اتهام جميع المعارضين السياسيين بأنهم خونة/ تعليق سيادة القانون.

هذه هي (العشرة الطيبة) لأي ديكتاتور (حاكم أو حزب) لقهر الشعوب والتسلط عليها مدى الحياة مع كل الاعتذار لفنان الشعب (سيد درويش).

وذكر الكتاب كيف تم تنفيذ المنهج الممنهج من القهر والتسلط في ألمانيا النازية وإيطاليا.

وأخذت الكاتبة في شرح وتوضيح كيف يحدث ذلك الآن في بلادها (أمريكا) وجار تطبيقه منذ أحداث 11 أيلول/ سبتمبر 2001.

(الكتاب نشر عام 2007) وهي بالأساس توجهت بالكتاب إلى مواطنيها، خاصة الشباب منهم، كما في عنوانه المفسر (رسالة تحذير إلى الشباب الوطنيين) تقول ناعومي: لا يمكن للطغاة نشر الخوف في صفوف الجماهير دون تجسيد هذا الخوف في صورة أعداء داخليين وخارجيين، عندما يخاف الناس فإنهم يكونون أكثر استعدادا لقبول إجراءات تنتقص من (حرياتهم الشخصية) بل حتى من مقومات(حياتهم الأساسية) الطعام والماء النظيف والمواصلات والخدمات.. إلخ 

ولتتحول حياتهم إلى سلسلة من اللحظات المتناثرة في (انتظار جودو) الذي لن يأتى أبدا، وأيضا مع كل الاعتذار للأديب صموئيل بيكيت.

هي خطة الأمس واليوم وكل يوم (خلق تهديد مرعب وغير مفهوم وغير واضح) الإرهاب/ المؤامرات الخارجية/ هدم الدولة..إلخ، وزد على ذلك كما تريد، لكن تذكر دائما الحقيقة السابقة: (الناس لديهم الاستعداد للتضحية بقدر كبير من حريتهم إذا شعروا أنهم في خطر حقيقي، بل الأنكى حجم استعدادهم لتقبل الممارسات الدموية للسلطة ما دامت تتم في حق غيرهم). 

وضع ألف خط تحت (تتم في حق غيرهم)، وغيرهم هذه تعود على من تسول له نفسه المشاركة في العمل العام.

ناعومى تحدثت بتوسع عن (القمع خارج دائرة القانون)، فالأنظمة الاستبدادية لديها شبكة سرية من السجون، تمارس من خلالها أنشطة غير مشروعة، أشهرها التعذيب لأجل انتزاع المعلومات، ما يفضي كثيرا إلى القتل، وأحيانا إلى الإعدام الجماعي، وأحيانا اغتصاب النساء، الذي اشتهرت به الديكتاتورية العسكرية في الأرجنتين.

إشاعة الأساطير حول قدرات ونشاطات أجهزة الأمن السرية بالغة القسوة والسيطرة والتحكم، إحدى أهم الوسائل الأقل كلفة في هذا المجال. 

من طفولتي المبكرة، وأنا أسمع حكايات مروعة عما كانت تفعله أجهزة (البكباشي) في المصريين. وقال لي أحد الباحثين الاجتماعيين أن فكرة (الاستهانة بكرامة المصري) ولدت وترعرعت في عهد (البكباشي)، وما حدث بعدها كان تنويعات على نفس اللحن والمزيكا، أما عن الأسباب فهي جاهزة دوما وتتعلق طبعا بدواعي الأمن القومي، والحفاظ على سلامة المواطنين.

سيذكر لنا الباحثون أن هزيمة كل يوم (1967م) كانت تتويجا مجيدا لفكرة (الاستهانة بكرامة المصري)، وكان مشهد الجنود الهائمين في صحراء سيناء بملابسهم الداخلية الذي بثته "بي بي سي" يملأ شاشات التلفزيونات فى تجسيد مدهش لحكاية الحاكم الذي وعد شعبه (بالكرامة)، بعدها تم حشد الكثيرمن تلك (القطعان البشرية) كي تهتف بحياة المهزوم الأكبر، مؤسس تلك المدرسة العتيقة، مدرسة (الاستهانة بكرامة المصري).

تقول ناعومي أيضا، إن السيطرة على المؤسسات الدينية والأحزاب والجماعات مهمة جدا في عملية (تصنيع الخوف). 

ستجد أغلب الجماعات والأحزاب مخترقة من السلطة، حتى تلك التي تعمل في شؤون البيئة ورعاية الحيوان، إذا جئت إلى الجمعيات الحقوقية هي ذاتها اعتقلت في مظاهرات (احتلوا وول ستريت) والجمعيات المناهضة للحرب، وغير ذلك من المؤسسات تصبح الأمور أكثر خطورة بالطبع، مهما كانت مساحة الحرية، يجب أن يشعر الجميع أن الأمور تحت السيطرة.

تحدثت أيضا عن مشهد شهير ويحدث كثيرا وهو (استهداف الرموز) فنانين وأكاديميين وصحفيين ورؤساء أحزاب وجماعات وعلماء دين ربما يجعل الناس يشعرون أن الجميع مهددون، لا حصانة لأحد فالكل مستهدف.

هناك أيضا قطاع هام جدا لا يجب أن يغيب عن أعين (الأخ الكبير) وهو قطاع التعليم، إذ لابد من إعادة هيكلة المؤسسات التعليمية ومؤسسات الخدمة المدنية بإصدار قوانين تتوافق مع توجهات السلطة حتى يشعر الجميع أنهم يدينون إلى السلطة أكثر من أي شيء آخر، لأنها تملك إبقاءهم في مناصبهم أو ترقيتهم أو استبعادهم بشكل كامل أو حتى إيداعهم في السجون (شهدت الجامعات المصرية في الخمسينيات والستينيات كل ذلك على نطاق واسع).

تقول أيضا: (لا يمكن للدولة أن تسيطر على الناس بحق دون أن تحكم السيطرة على ما يلقى في عقولهم).

ولا مانع من مساحة لرأي معارض بشرط أن يكون أنيسا مستأنسا وتحت السيطرة.

تقول أيضا: (لا يمكن أن يتعاطف الناس مع خائن أو عميل ضد بلده المهم أن تتسع تهم الخيانة والتجسس لتصبح فضفاضة إلى أقصى قدر ممكن).

كان ستالين يا إخوتي يلقب معارضيه دوما بـ(أعداء الشعب).

توماس هوبز (1588- 1679م) وما أدراك ما توماس هوبز، صاحب نظرية (الدولة التنين- الليفياتان) اعتبر (الخوف) شيئا مهما وضروريا لأي سلطة، ليكن ذلك.

ولكن لأي نوع من الناس يكون؟ للمواطن أم للمجرم؟ سكب الناس ما فيه الكفاية من الدموع يا عم توماس، وللأمانة هو كان يرى أن التعاقد الاجتماعي -من حيث المبدأ- يوفر نوعا من السلام والاستقرار في المجتمعات.

ستكشف التجربة السياسية أن تفاصيل تنفيذ هذا التعاقد معقدة ومقلقة وحرجة وفي حاجة إلى كثير من الضمانات الأكيدة التي تتجاوز أهواء البشر.

علما بأن الوضع في بعض المجتمعات التي تحكمها أنظمة استبدادية الآن أصعب وأغلظ وأكثر قمعا واستبدادا ووحشية وعنفا مما وصفه هوبز، إذ ليس فيها أي نوع من التعاقد الاجتماعي بأي معنى للكلمة.

فالحقوق مصادرة والحاكم يملك سلطة متعالية طليقة مسلطة على رقاب الناس، وفي متناول يده كل مقدرات البلاد، وهو ألحق كل مؤسسات الدولة بأجهزته، التي بدورها سحقت كل طاقات القوى الفاعلة في المجتمع الذي تحول بدوره إلى مجتمع صامت خائف مجزأ يسوده إحساس ثقيل بالخيبة وغياب المعنى والقيمة والغاية.

ورحم الله البارودي الذي قال هذا البيت المانع:

وأقتل داء رؤية العين ظالما ...يسيء ويتلى في المحافل حمده.

0
التعليقات (0)